الضمير عندما يتحرك

TT

في أيام الدراسة الداخلية، ومع الأسف، كنا مجموعة من التلاميذ المشاغبين نكره المدير كره العمى من دون سبب منطقي، مقتدين بالمثل القائل: إن نصف التلاميذ أعداء لكل مدير، هذا إن عدل. فاستغللنا ليلة الحفل الختامي بالمدرسة، وتطوع أشجعنا، وكان يحسن التعامل مع أسلاك الكهرباء، فذهب إلى غرفة المولدات، واستطاع أن يفصل الكهرباء نهائيا عن المدرسة أثناء فقرات الحفل ووجود الحضور، وحصل عندها (هرج ومرج) وفشل الحفل فشلا ذريعا، وبدأ التحقيق في اليوم التالي، مستندين إلى شهادة أحد المستخدمين، عندما أكد أنه شاهد تلميذا في تلك الليلة يدخل غرفة المولدات لم يتبين ملامحه، ولكنه كان يرتدي (بلوفر) أزرق اللون.

وعلى الرغم من أنني لا أنتمي لتلك العصابة، لأن شغلي كله كان من (تحت لتحت)، فإنني عطفت عليهم، خصوصا عندما شاهدتهم خائفين ومرتجفين، وبالذات الزميل الشجاع منهم، فهدأت من روعهم، قائلا لهم: (أهجدوا) اخرسوا، عندي فكرة، وتفتقت قريحتي الخربانة عن أن أقترح عليهم أن نرمي التهمة (بقلب رجل واحد) على تلميذ بريء لا له (لا في العير ولا في النفير)، غير أدبه الجم وتفوقه في الدروس علينا جميعا، مستغلا ارتداءه شبه الدائم لبلوفر أزرق يبدو أن أمه هي التي اشترته له من الحراج، فانفرجت أساريرهم، وصفقوا لي (بقلب رجل واحد).

ومن حسن الحظ، أو حسن الغباء، أن المدير مع المدرسين قد صدقونا، وعوقب المسكين، وكاد يطرد من المدرسة، ولم تشفع له دموعه وتوسلاته وأحلافه المغلظة، ولا أنسى وقتها مقدار السعادة والإعجاب بنفسي - أو بالأحرى (بخبثي) - ولم يتحرك ضميري وأندم على فعلتي إلا بعد عدة سنوات، وقد كفرت عن ذلك فيما بعد بالتخفيف من أكاذيبي ما لا يقل عن 50 في المائة، وما زلت إلى الآن أسير على هذا المنوال الحيوي الخلاق.

وإنني في هذا لا أبتعد كثيرا عن ذلك المحامي - مع الفارق - الذي وُكل للدفاع عن رجل اتهم بسرقة جواد، فدخل المحكمة ومعه رجل يرتدي معطفا مهلهلا، وفي يده قبعة من الخوص الرخيص، وجلس الرجل في آخر صفوف القاعة يحدق في هيئة المحكمة وكله قلق وارتباك، بينما جلس المحامي بجانب الفلاح صاحب الجواد المسروق، واستغرق معه في حديث طويل عن الحاصلات الزراعية وحياة الريف؛ فلما حان موعد النظر في الدعوى، ووقف الفلاح يدلي بأقواله مؤكدا أنه رأى المتهم بوضوح يسرق جواده، ابتدره المحامي سائلا: «إذا كنت تعرف السارق تمام المعرفة؛ فهل تستطيع أن تخرجه الآن من بين الحاضرين؟»، وسرعان ما أجاب الفلاح؛ بأن أشار إلى الرجل ذي المعطف المهلهل والقبعة الرخيصة، وقال: «هذا هو سارق الجواد بكل تأكيد».

وهنا التفت المحامي إلى هيئة المحكمة، وقال: «إن الرجل الذي يؤكد المدعي أنه رآه يسرق جواده ليس موكلي، ولكنه كاتب يعمل عندي!».

وعلى الرغم من معارضة النيابة في طريقة الدفاع هذه، واحتجاجها على المحامي لأنه ألبس كاتبه ملابس المتهم، فإن المحكمة لم يسعها إلا أن تبرئ المتهم.

وهكذا هي المحاكم، بل هكذا هي الدنيا.

[email protected]