أمنية للمصريين

TT

كان الزميل الراحل محمود عطا الله نائبا لرئيس التحرير هنا لسنوات طويلة. وكان معروفا عنه شدة التأني وكثرة المحافظة. وكنت أمازحه دائما بالقول إنه لكثرة ما اعتاد إطفاء الحرائق لم يعد يميز في إطفاء «اللمبات»، أو الأضواء. وكنت أتصل به أحيانا كي أسحب مقالتي لأعلق على حدث جديد، فيرد في هدوء مدمر: «مستعجل على إيه؟ ما تسيبها لبكرة».

يقولها في دماثة حاسمة فتسكت. المرة الوحيدة التي سمعته غاضبا صائحا كان عندما اتصل بي يقول دون مقدمات: «عملت فينا إيه حضرتك؟». وراح حضرتي يفكر في ما يمكن أن يكون قد ارتكب فلم يخطر له سوى راحة الضمير. وسألت: ماذا في الأمر؟ فازداد الرجل الهادئ حدة: «وبتسأل برضو؟». وقلت إنني أسأل برضو.. إنني لا أعرف ماذا حدث. قال رحمه الله شاخطا: «القاهرة موقفة طبعة الجورنال في مصر عشان مقالتك. هو حد ممكن يقول إن الشعب المصري يحب الردح؟».

قلت: يا سيدي واضح أن الأمر هزار، والمصريون أسياد الدعابة، فلماذا سوف يتغير مزاج الأمة المصرية اليوم، وليس غدا، بعد صدور الطبعة؟ نسيت أن محمود كان مصريا أكثر من خوفو، صاحب الهرم، فاشتد غضبه أكثر، وقال: «أنا ما باهزرش معاك. شوف طريقة تعتذر. لاقي حاجة. المسألة مسألة الشعب المصري».

قلت: يا مولاي، هناك حل أفضل. اسحب المقال. قال: سحبناه. قلت: وأين المشكلة إذن؟ قال: المشكلة أنك أهنت الشعب المصري. يجب أن تعتذر. قلت: وقد أصبحت المسألة على هذا النحو من الجدة، لا يمكن أن أعتذر عن مقال لم يره سوى الرقيب. وبيني وبين الشعب المصري تاريخ لن ينقلب بسبب كلمة واردة في إطار شديد الوضوح في التحبب والبعد عن النية السيئة. وقلت لمحمود الذي لا يقنعه إقناع: إنه لا بد أن تأتي مناسبة أوضح فيها موقفي.

يحزنني أن أكتب هذا الاعتذار بعد سنوات على غياب محمود. فمن كان لبنانيا مثلي وآتيا من بلد فيه نواب مثل نوابنا وفيه «محللون» سياسيون مثل محللينا، بأي حق يمكن أن يخطر له اتهام شعب آخر «بالردح». على الأقل الردح المصري ظريف، مهضوم، مسل، غير جارح وغير كريه. أما الردح اللبناني، فوق السطوح وتحت السطوح وعلى الأرصفة، فهو أولا ثقيل غليظ نافر. وثانيا ممل بلا أي لمعة أو تجديد. وثالثا فيه سموم. وأولا وثانيا وثالثا، غليظ.

تكرار، أعتذر من مصر. وأرجو أن تمر طبعة القاهرة اليوم «من غير هامبكه». ومن دون اسمو إيه. أرجو لكم دوام الظرف.