ما جدوى الديمقراطية: إذا لم «تلجم» قرار الحروب العبثية؟

TT

إذا كان من جرائم الاستبداد: التفرد العابث بالقرارات التي تنزل بالأمم من الكوارث ما لا تطيق احتماله، فإن من الفضائل «النظرية» للديمقراطية «لجم» الحاكم ومنعه من اتخاذ قرارات مدمرة من هذا النوع، ولكن حين تغيب هذه الفضيلة الديمقراطية أو تضعف - في النظام الديمقراطي - يلتقي هذا النظام مع نقيضه المستبد في مجال اتخاذ قرار شن الحروب العبثية مثلا.

وهذا ما تكرر حدوثه في أنظمة ديمقراطية. ولما كانت هذه «الدعوى» صاعقة صادمة، فإن تصديقها وتوثيقها يتطلبان أدلة وبراهين.. وفيما يلي منظومة متماسكة من هذه البراهين:

1) قبل أيام (وهذا هو المدخل الزمني للمقال) نشر تقرير «ثمن حروب أميركا» الذي أعده معهد واتسون للدراسات الدولية التابع لجامعة براون، مجمل تكلفة حروب أميركا في السنوات الأخيرة (في أفغانستان والعراق). وقد بلغت هذه التكلفة نحو 4 (أربعة) تريليونات دولار.. ويقول التقرير: إن هذه الأرقام سترتفع بسبب الالتزام طويل الأمد بمعالجة جرحى الحروب ومشوهيها.. وفي مجال الخسائر البشرية قتل في هذه الحروب نحو نصف مليون إنسان منهم أكثر من مائة ألف مدني في العراق وحدها.. يضاف إلى ذلك نحو 8 ملايين إنسان مشرد.. هذه الحروب التي نجمت عنها هذه الخسائر المرعبة كيف صنعت؟.. ومن اتخذ قرارها المجنون؟.. الحرب على العراق - مثلا - بنيت على «كذبة». ولنستمع إلى شهادات أميركية شجاعة.. يقول غريغ فيليمان مدير الإدارة المسؤولة عن أسلحة الدمار الشامل في وزارة الخارجية الأميركية: «إن في الإدارة من تلاعب بمعلومات أجهزة المخابرات حول العراق وتزويرها لأجل تحقيق هدف سياسي، وفيما يخص حصول العراق على اليورانيوم من دولة أفريقية، فإن كل الأدلة الأميركية في هذا الشأن مزورة».. أميركا بلد ديمقراطي. نعم. ولكن قرار الحرب على العراق صاغه «رجال غير منتخبين» استطاعوا غسل دماغ الرئيس المنتخب جورج بوش الابن.. وهذه شهادات أميركية حاسمة أيضا.. يقول فيلبس بينيس من معهد الدراسات السياسية: «لقد استثمروا كثيرا (أي اللوبي إياه) في رأس المال السياسي بدعوى أنهم سينالون منه (أي صدام حسين) إلى درجة أنهم جعلوا ذلك التزاما لا بد من الوفاء به «!!!». ولقد أكد مستشار وزارة الدفاع ريتشارد بيرل الذي يقود الحملة لغزو العراق: إن سمعة الرئيس بوش قد أصبحت الآن جزءا من المعادلة». بمعنى أن سمعته ستسقط إذا لم يشن الحرب على العراق.. وهكذا عطلت الآليات الديمقراطية في اتخاذ قرار الحرب في أميركا من أجل أهواء حفنة صهيونية مثل: وولفويتز وريتشارد بيرل. فما جدوى «اللجام الديمقراطي» في قرار الحرب والحالة هذه؟ فبسبب أهواء ولؤم هؤلاء الصهاينة تحملت الولايات المتحدة تلك التكاليف الباهظة: في الأموال والأنفس والسمعة السياسية والحضارية.. فأين ضبط القرار الديمقراطي بالمصلحة العليا لأميركا؟

2) وقف الرئيس الأميركي الأسبق ليندون جونسون موقفا منحازا 100% إلى جانب إسرائيل في حرب 1967. وبالتوكيد لم يكن هذا الانحياز الأخرق نتيجة تشاور «ديمقراطي»، بل كان بدافع «عاطفة العشق الشخصي» لامرأة اسمها ماتيلدا كريم (يهودية صهيونية إرهابية مناضلة من أجل إسرائيل وقد شهد بنضالها ليفي أشكول وموشي ديان). لقد عشق جونسون هذه المرأة بجنون.. ويقول دونالد ناف مؤلف كتاب «6 أيام غيرت الشرق الأوسط»: إنه في ليلة حرب 1967، ذهب جونسون إلى غرفة عشيقته ليخبرها بنفسه باندلاع الحرب مع الاعتذار لها بأنه لا يستطيع أن يتناول معها وجبة الإفطار نظرا لارتباطات رسمية سابقة.. ومعروف أن جونسون كان قد زود إسرائيل في هذه الحرب بأسلحة وذخائر قدرت بـ70 مليار دولار، طبعا من أجل عيون عشيقته ماتيلدا، لا من أجل المصالح العليا لشعب الولايات المتحدة.. لقد كانت عاطفة العشق عند جونسون أعظم وأولى من مصالح بلاده.. لقد ذابت الآليات الديمقراطية في اتخاذ قرار الحرب أو دعمها في حرارة الحب لماتيلدا هذه!.

3) ويبدو أن حكاية عشق الرؤساء الأميركيين وتأثيرها في الحروب هي حكاية لها سوابق تاريخية.. لقد زج الرئيس الأميركي الأسبق وودور ويلسون ببلاده في الحرب العالمية الأولى بدوافع عشق شخصي لامرأة أيضا.. لقد حشدت أميركا لهذه الحرب نحو خمسة ملايين رجل مات منهم 115 ألف رجل، وأصيب بجروح وعاهات دائمة 200 (مائتا) ألف رجل.. وكان مسوغ دخول الحرب دعوى أن غواصة ألمانية أغرقت سفينة أميركية اسمها «ساسكس» في القناة الإنجليزية. وقد أثبت التحقيق الميداني والتاريخي كما في كتاب «كيف يصنع الدبلوماسيون الحرب» أن ساسكس هذه لم تضرب ولم تغرق، وأن أحدا من الأميركيين لم يمت قط.. والسؤال المهم هو: لماذا هذه الكذبة الضخمة التي دخلت أميركا بموجبها تلك الحرب الطاحنة؟ السبب الحقيقي هو أن الحركة الصهيونية اتفقت مع الإنجليز على جر رجل أميركا إلى الحرب مقابل أن تتعهد بريطانيا بوعد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين (قد حصل).. بيد أنه ليس هناك سبب موضوعي لدخول أميركا الحرب.. هنا تفتق الذهن الصهيوني عن حيلة للضغط على الرئيس الأميركي ويلسون - يومذاك -.. كانت لويلسون عشيقة مفضلة عندما كان أستاذا في جامعة برنستون.. فوجئ الرئيس الأميركي برغبة محام كبير في لقائه، وكانت المفاجأة أعظم عندما أخرج المحامي رزمة من الخطابات الغرامية - بخط اليد - كان قد أرسلها ويلسون إلى عشيقته السابقة. ولمح المحامي إلى أن عشيقة ويلسون سترفع عليه دعوى. ثم فاجأ المحامي الرئيس بأنه يمكن أن يستر الفضيحة أو يعالجها بشرط أن يلبي الرئيس له طلبا معينا. وهذا الطلب هو تعيين «فلان» في المحكمة العليا فور خلو أي منصب فيها.. وقد عين فلان فعلا في المحكمة العليا. وهذا القاضي الصهيوني هو نفسه الذي صاغ قرار دخول أميركا الحرب العالمية الأولى بناء على «كذبة» إغراق الباخرة «ساسكس».. فما جدوى الديمقراطية إذا لم تلجم «قرار» الحرب العبثية؟ وما الفرق - ها هنا - بين الحاكم الديمقراطي والحاكم المستبد؟