أخيرا تواجه السلطة الرابعة الحساب

TT

الديمقراطية تعني فصل السطات؛ التشريعية (البرلمان)، من التنفيذية (الحكومة)، من القضاء المستقل؛ بضمان التوازنات checks and balances.

الصحافة كسلطة رابعة Fourth Estate إحدى أهم ضمانات الديمقراطية، واقتصاديات حرية السوق بالمنافسة هي ضمان لحرية الصحافة. فالمؤسسات الثرية تتعمد خسارة مادية مؤقتة لإخراج المنافسين الأفقر من السوق فتنفرد به.

الصحافة في ديمقراطيات المجتمعات المفتوحة ذهنيا وثقافيا (لا يتعرض مفكروها للتكفير بطرحهم الجديد، ولا يعترض أحد على ملبس أو تصرفات الأفراد، ولا يمارس صحافيوها ومبدعوها رقابة ذاتية على أعمالهم) هي الضمير العام للأمة لترصد أداء السلطتين التنفيذية والتشريعية ومدى استفادة دافعي الضرائب من ميزانية دعم السلطتين.

يتعاظم دور الصحافة، في النظام البرلماني الخالص (كبريطانيا وكندا وأستراليا مثلا - بعكس فرنسا كنظام جمهوري)، وتكبر مسؤولياتها التاريخية بنضج النظام البرلماني حيث جميع الوزراء تقريبا بمن فيهم المدعي العام (أو محامي الحكومة أو النائب العام) هم برلمانيون منتخبون.

البرلمان كسلطة تشريعية هو رقيب ضابط لممارسات السلطة التنفيذية (عن طريق اللجان البرلمانية الدارسة لعمل كل وزارة تنفيذية ومراجعته).

التناقض أن الوزراء، كسلطة تنفيذية هم من نواب الأغلبية في البرلمان كسلطة تشريعية.

المعارضة بالطبع أقلية برلمانية عاجزة عدديا أن تسقط الحكومة وبديهيا لن يصوت نائب حزب الأغلبية (الحاكم) ضد حكومته، فتفلت من العقاب مهما ارتكبت من أخطاء.

المفارقة إذن أن النضج الديمقراطي يضعف دور البرلمان كضابط للسلطة التنفيذية.

الخطورة أن ينزلق البرلمان، كسلطة تشريعية إلى دور «ترزي» سياسي يفصل قوانين على مقاس الحكومة التنفيذية، أي قوانين قد تصمم خصيصا لزيادة شعبيتها عشية الانتخابات، كتخفيض الضرائب مثلا أو زيادة إعانات البطالة، رغم ما قد يلحق بالاقتصاد من أضرار.

فتحديد جدول الأعمال البرلمانية مقدما هو مهمة زعيم البرلمانLeader of the House والمقصود زعيم الأغلبية - أي أكثرهم خبرة برلمانية وله حقيبة في مجلس الوزراء - وليس «رئيس» البرلمان، الترجمة العربية الخطأ لـSpeaker of the House أي الذي له حق الكلام وإسكات الآخرين أو منح الكلمة لنائب وحرمان آخر منها، وتحديد لوائح وضوابط سير الجلسات والأعمال؛ وهو يرأس – أو يفوض أحد نائبيه الاثنين برئاسة - الجلسات البرلمانية.

بريطانيا، كأعرق الديمقراطيات تضبط عدم الانحياز التشريعي للأغلبية البرلمانية (أي الحكومة) عن طريق ضرورة التصديق عليها من مجلس الشيوخ «اللوردات» أو حكماء الأمة (من أرستقراطية متوارثة، ساسة سابقين، كبار رجال الدين وكبار القضاة المتقاعدين).

فالشيوخ لا يتعرضون لضغوط صندوق الاقتراع فلا يحفلون برد الفعل الغوغائي كحال الساسة المنتخبين، فأولوية اللوردات الحفاظ على مصالح الأمة على المدى الطويل - وإن كانت حكومة الائتلاف البريطانية على وشك ارتكاب حماقة تاريخية بتحويلهم إلى مجلس منتخب كلية مما يزيل آخر ضابط على تجاوزات الأغلبية البرلمانية.

قوة الصحافة البريطانية وارتفاع مستواها الحرفي مقارنة بأي صحافة أخرى يدعمها غياب أية قوانين تنظم الصحافة، التي تعتبر الدرع الديمقراطية الأخيرة ومراقب الساسة في فترات ضعف المعارضة عندما تتمتع الحكومة بأغلبية مريحة في البرلمان.

وقوة السلطة الرابعة البريطانية ليست على المستوى القومي فقط – الصحف الـ12 اليومية والـ13 الأسبوعية حيث تتابع أداء الحكومة – بقدر قوتها في 1200 صحيفة محلية لا تراقب المجلس البلدي المنتخب فحسب، بل ترصد أداء نائب الدائرة في مجلس العموم.

أكثر من 300 مراسل برلماني للصحف المحلية في مجلس العموم. يعمل النائب للمراسل ألف حساب لأنه يمثل ضمير وآذان وعيون الناخبين في دائرته.

ورغم محاولات الساسة – وكثير من معلقي اليسار - البحث عن مبررات لإصدار قوانين لكبح جماح اندفاع الصحافة في استهدافها للساسة – خاصة المنافقين منهم - أو إخضاعها للمحاسبة، فإن الغالبية الساحقة من الصحافيين تقاوم هذه المحاولات بشراسة حفاظا على استقلاليتها.

فالساسة يسعون إلى مكاسب علنية على المدى القصير لكسب الرأي العام غوغائيا، والصحافيون لا يخوضون امتحان الانتخاب، هدفهم الوحيد السبق الصحافي وكسب ثقة القارئ بتركيز بحث الصحيفة عن وقائع حول مصلحته.

المفارقة أن الصحافي غير المنتخب يصبح عمله اليومي أكثر ضمانا للديمقراطية من النائب المنتخب الذي قد يضر بالديمقراطية (ربما من دون قصد) في البحث عن ترويج شعبيته.

لكن ما هي الضوابط والتوازنات لمحاسبة السلطة الرابعة، وهي تختلف أخلاقيا عن حرفية جودة السلعة الصحافية؟

انتشار صحافة الهواة (الذاتية) كالبلوغات (مدونات في الصحافة العربية) فتح باب التعبير للملايين؛ ووضع الصحافة تحت مرصد الهواة المدونين Bloggers.

ولا يمكن تجاهل صحافة الإنترنت، خاصة أن وسائط تعبير كـ«تويتر» مثلا أصبحت جزءا من عملنا اليومي. مثلا كل أربعاء أثناء مساءلة رئيس الوزراء أمام البرلمان، نتسابق، كصحافيين، في بث انطباعاتنا من منصة الصحافيين، كحركة جسم نائب، كرد فعل لتصريح سياسي، تقرأها فور وقوعها على «تويتر»، لا صباح اليوم التالي كما كان الحال قبل عامين.

«توتير» والمدونات – والتي نتابعها كصحافيين لمعرفة أخبار الساسة والمشاهير - أظهرت عضلات مستهلكي السلعة الصحافية، من قراء ومتفرجين ومستمعين. بدورهم يحاسبوننا على أدائنا في بلوغات أو «فيس بوك» يقرأها صحافيون من قبيلة منافسة.

فمثلا تقود «الغارديان» – سفينة الراية في أسطول اليسار البريطاني – حملة ضد صحف إمبراطور الصحافة الأسترالي روبيرت مردوخ Rupert Murdoch (وليس روبرت Robert كما يخطئ العديد من الصحافيين العرب). وبلوغات القراء التي تتصيد أخطاء صحافة مردوخ تزود اليسار بالذخيرة في حرب شارع الصحافة والتي انتهت بقرار إغلاق أكبر الصحف توزيعا «نيوز أوف ذي وورلد» هذا الأسبوع بعد 150 عاما من صدورها، بعد فضيحة تنصت بعض صحافييها على تليفونات مشاهير وضحايا جرائم.

مدون هاو كشف تجاوزات كاتب عمود عمره 32 عاما من طلائع اليسار البريطاني. نشر لقاءات صحافية لاحظ القارئ تطابق نصوصها بمحتوى كتاب ألفه الأديب موضوع اللقاء. نشر المدونة دفع قراء آخرين للعثور على نماذج «سطو» الكاتب اليساري على الأعمال الأدبية للآخرين.

جاء عذر الكاتب أقبح من ذنبه بتبرير الاقتباس من الأعمال الأدبية أنها بأقلام شخصيات أجرى معهم المقابلات، رغم أنه خدع القارئ بإيهامه أن التعبيرات أدلت بها الشخصيات أثناء اللقاء.

وهي في إتيكيت الصحافة غش ونصب.

لم يأت كشف الغش على يد رئيس أو مدير التحرير، بل بفضل وعي قراء، تشككوا فيما يقدمه الكاتب الشاب.

ورغم السلبية الظاهرية، فنحن كصحافيين تثلج الحكاية صدورنا، فأخيرا وجدت السلطة الرابعة من يحاسبها – بين مستهلكيها أنفسهم - بعدما ظلت، لعقود، فوق المحاسبة. والأغلبية الشرفاء من أبناء المهنة ترحب بهذه المحاسبة من قرائنا.