الأب.. والابن ونروح القدس!

TT

في عالم الأعمال الحديث يعتبر عنصر التسويق أحد أهم عناصر نجاح السلعة، فأنت الآن لا يمكن أن تشتري معجون أسنان إذا لم يكن يحتوي على مادة «الفلورايد»، كذلك لا يمكن أن تشتري مسحوق غسيل إذا لم يحتو على «مبيض»، ولا يمكن أن تشتري صابونا إذا لم يكن به مرطب ومضاد للجراثيم. أقنعنا جهابذة التسويق بأننا لا غنى لنا عن هذه المركبات في المنتجات التي نشتريها، وبالتالي أصبحت ضرورة، و«اشترينا» الفكرة!.. والشيء نفسه ينطبق على عالم السياسة بلا شك، فأنظمته «تبيع وتسوق وتروج» نفسها على أنها اشتراكية، وأخرى على أنها دينية، وغيرها على أنها مقاومة. وقد لفت نظري دفاع حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني، عن النظام السوري في موقفه ضد شعبه الذي يواصل مسلسل القمع الدموي ويقتل ويجرح ويعتقل ويشرد الآلاف منه بشكل ينال سخط العالم الحر الأمين الصادق، ومع ذلك يصف حسن نصر الله النظام بأنه «مقاوم»، وحاولت جادا أن أراجع تاريخ أكثر من أربعين سنة من النظام الحالي لأرى ملامح المقاومة التي يشير إليها حسن نصر الله، فلم يظهر لي أي منها.

العدو الوحيد المتفق عليه هو إسرائيل، وهناك قطعة مهولة من الأراضي السورية محتلة منذ أكثر من أربعين عاما اسمها الجولان (أعتقد أن هذه معلومة لا تخفى على أحد)، والمقاومة ليست محصورة في تحرير أراضي الجنوب اللبناني الغالي، ولا أراضي مزارع شبعا (وهي أراض سورية بعلم اللبنانيين أنفسهم لكنها تحولت فجأة إلى لبنانية بقدرة قادر!)، لكن النظام السوري ابتدع فكرة «المقاومة من الباطن»، واستحدث فرقا وعناصر فلسطينية، كأحمد جبريل وميليشياته وأبو مرزوق وعناصره، لكي يكونوا بديلا لفتح نفسها أو «معكرا» للمزاج الفلسطيني، وطبعا دعموا حراك «أمل» في فترة من الفترات حتى انتهت صلاحيتها وتحول الدعم إلى غريمها الصاعد حزب الله، وكذلك الأمر بالنسبة للطوائف الأخرى المتناحرة في لبنان، وبقيت الجبهة السورية المواجهة للجولان أهدأ من منتجعات الكاريبي، لا يمر فيها مناضل ولا ناموس في فصل الصيف!

وإذا رغبنا في توضيح المقاومة وفعاليتها فها هي نراها تقاوم «جراثيم» الشعب المطالب بالحرية والكرامة والديمقراطية ومقاومة الفساد والطغيان، وهي نتيجة حكم أكثر من أربعين عاما من التسلط والجبروت والطغيان وحرمان الشعب السوري من أبسط حقوقه، وبيع سلعة عجيبة وغريبة له بشكل يومي على أنها حق.. بيعت له الديكتاتورية على أنها حكم الشعب وإرادته، بيعت له منظومة الفساد المالي على أنها اشتراكية، بيعت له منظومة التوريث على أنها ديمقراطية، بيعت له منظومة المعتقلات على أنها أمن واستقرار.. ومع ذلك يخرج خامنئي وحسن نصر الله يبيعان للعالم المستمع لهما أن ما يحدث في سوريا اليوم هو مؤامرة مندسة، وأنه يجب دعم النظام المقاوم!

ابتدع حكام الثورة في إيران الاحتفال بيوم القدس بشكل سنوي «لحث» روح المقاومة، وباتت ترفع فيه أعلام حزب الله (وكأن حزب الله أصبحت لديه الوكالة الحصرية لموضوع فلسطين)، لكن الغريب أن الجولان لا تذكر أبدا في هذه الاحتفالات الكبرى التي تحصل في لبنان وإيران والبحرين والعراق وسوريا (وهي مواقع النفوذ الإيراني كما هو معروف)، فلماذا «تغيب» الجولان دوما عن ذكر المقاومة والمقاومين؟.. سؤال يستحق الطرح، خصوصا والحديث قائم وملح بحق النظام المقاوم كما وصف من أصدقائه.

حتى في حرب 1973، وبعدها الدخول السوري لقمع الحرب الأهلية في لبنان والمعارك التي حدثت هناك وما أكثرها مع مختلف الفرق بشتى الأساليب، لم يسمح أو يرى أحد العتاد العسكري السوري يتحرك، سوى للمشاركة في تحرير الكويت مع قوات التحالف العالمي، والآن ها هو يُرى ويُسمع ويُشاهد في كل مدينة وقرية على التراب السوري بحق مواطنيه، بالدبابات والمدرعات والطائرات والعسكر والمشاة وبشكل منظم وموجه، لقمع المنادين بالحرية والعدل والديمقراطية والمساواة.

في عالم التسويق مبدأ سري يعلمه ويطبقه المختصون بإتقان، وهو أنه إذا أضفت أيا من الكلمات الثلاث السرية التالية سيباع منتجك فورا، والكلمات هي «طبيعي» و«الترا» و«اكسترا»، وفي عالم السياسة ضع فلسطين في أي جملة فستكسب المصداقية والجماهير، وسيكررونها مرات كثيرة بحيث تتحول إلى حقيقة مطلقة غير قابلة للتشكيك!.. أهم فرع للمخابرات في سوريا اليوم هو باسم فلسطين، ولا علاقة له بفلسطين نفسها لكنه اسم مناسب جدا، وحتى العلم الخاص بحزب البعث ألوانه شديدة الشبه بالعلم الفلسطيني نفسه، فيقنع الناظر بأنه يرى الشيء نفسه، وبالتالي هناك توأمة ذهنية لهما!

المقاومة باسم فلسطين (وليس الجولان) تحولت إلى سلعة وإلى منتج يتفوق ويتألق في الترويج له بعض النظم السياسية العربية بامتياز، وبنوا جدارتهم ومصداقيتهم عبر السنوات الطويلة من خلاله، لكن تستطيع أن تبيع السلعة لبعض الناس ولبعض الوقت، وليس لكل الناس لكل الوقت. إذا ضاعت البضاعة وانكشفت راحت عليها السوق، وهذا ما يحدث اليوم. الفلسطينيون أنفسهم أصبحوا الأقدر حكما على أن يقيموا من تاجر بهم ومن لم يتاجر.

[email protected]