موحدون.. لكن بالشعارات فقط

TT

الفرق بين الفوضى والنظام هو أن الأولى تفتقر لقواعد تنظم العلاقات والصراعات والاختلافات، بينما الثاني يقوم على مثل هذه القواعد التي يلتزم بها جميع الفرقاء من أجل الحفاظ على النظام أو لأنهم لا يستطيعون الخروج عن قواعده لأن النظام يحتوي على آليات عقابية ينص عليها القانون. النظام قد يكون جائرا لأنه يضع قواعد غير عادلة قد تسمح باستئثار فئة معينة بالسلطة والموارد والامتيازات على حساب الأغلبية، وقد يمنع الآراء الأخرى من التعبير عن نفسها بحرية، ولذلك يسمى نظاما ديكتاتوريا أو قمعيا. ومنذ أن ظهر النظام الديمقراطي كبديل عن الفوضى وعن النظام الديكتاتوري، بدا بإمكان الشعب أن يطمح لمستقبل أفضل دون أن يترك بين خيارين أحلاهما مر. لكن الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، أو من الفوضى إلى النظام الديمقراطي ليس بالعملية السهلة، فهي تتسم بالتعقيد الشديد وتتطلب تغييرا جذريا للقيم السائدة وللأنماط الاقتصادية والاجتماعية المعتادة، فضلا عن بناء حكم المؤسسات.

ولكي يصبح النظام الديمقراطي ممكنا، لا بد وقبل كل شيء أن يبنى على ثوابت يسميها كتاب ما بعد الحداثة بـ«السرديات الكبرى»، إنها مبادئ تتسم بالرسوخ وتمتلك قوة وجدانية تجعلها غير خاضعة للمساءلة ويقبلها جميع الفرقاء السياسيين مهما اختلفوا حول أي شيء آخر. الديمقراطية تفترض أن النظام قابل للوجود بوجود الدولة، والدولة تستمد وجودها من وجود شعب متفق على مبادئ كبرى حاكمة ترمز لوحدته، ومن هنا نفرق في العادة بين الأمة بمفهومها الأوروبي والغربي ككيان اجتماعي وسياسي متجانس، وبين الكيانات التي أقيمت في منطقتنا منذ رحيل الاستعمار والتي فشلت حتى الآن في صناعة الأمة. أحد بواعث الفشل عندنا أننا حتى اليوم فشلنا بصناعة ثوابت يقوم عليها وجودنا كشعب واحد، ومن ثم فشلنا بصياغة نظام عادل يضمن المساواة والعدالة للجميع، وفشلنا حتى الآن في تحويله إلى نظام ديمقراطي راسخ تحكمه الثوابت العليا.

عندنا تعثر على بعض السياسيين والكتاب ممن يستطيعون أن ينتجوا معلقات في الوحدة الوطنية وحب الوطن والإخلاص له والموت من أجل ترابه، وغيرها من الكيليشيهات اللفظية التي أجادت إنتاجها الأنظمة الأيديولوجية الشمولية، تلك الأنظمة التي انتهت في كل بلد حكمته إلى تفتيت المجتمع بدلا من توحيده، كما باتت النماذج العربية تكشف عن ذلك بوضوح. عندما يصبح الكلام والخطاب بديلا عن الواقع، ننتهي إلى حالة من خداع الذات نتصور فيها أن ما يقال هو الواقع، وتلك ميزة عربية تاريخية نستمدها من تراث قائم على إعلاء شأن الكلام وإعطاء قيمة عالية للبلاغة والبيان على حساب التفكير الواقعي والعملي. «الأمة» عندنا ما زالت محض فكرة، نتغنى بها ونهتف لها ونبكي عليها، لكننا لا نلمسها على أرض الواقع، بل إن البعض من كبار «الهتافين» قد يتحولون بين لحظة وأخرى إلى أناس ضيقي الفكر ينطلقون في تفكيرهم من منطق القبيلة والطائفة والإقليم الصغير.

صناعة الأمة لن تتحقق ما دمنا نتصورها مشروعا كلاميا يقوم على البلاغة والأناشيد، وليست مشروعا واقعيا يتطلب بنية تحتية وتحولا اقتصاديا وبناء مؤسساتيا. عجزنا عن إدراك ذلك هو الذي يجعل بعضنا يصاب بالصدمة عندما يرى الفجوة بين الشعارات والواقع، فما دمنا نصدق الشعارات ونأخذ بحسن نية ما يقال، سنصاب مرارا وتكرارا بالصدمة، لأننا ما زلنا عاجزين عن أن نفهم أن مؤشرات السلوك هي الأفعال لا الأقوال.

عجزنا عن الاتفاق على ثوابت هو دليل ساطع لعجزنا عن وضع الأساس الأول والجذري للأمة، ومن ثم للنظام الديمقراطي العادل. مجرد نظرة بسيطة على سلوك الطبقة السياسية العراقية تكشف بوضوح أننا لا نتفق على أي شيء بما في ذلك قواعد النظام الحالي الذي نعمل بموجبه. يتحدث بعض السياسيين عن «الثوابت الوطنية» لكن هل بإمكان أي منهم أن يقول لنا ما هي بالضبط. لدينا طبقة سياسية ليست متفقة على تعريف الأمة العراقية، بل والاتفاق ماذا كان العراق أمة قائمة بذاتها أم جزءا من أمة أخرى أو تجميع لطوائف وإثنيات لا رابط بينها، وليس هنالك اتفاق حول ما هي أولويات البلد، وما هي أخطر التحديات التي تواجهه، ومن هو الصديق أو العدو. نظرة بسيطة على «السياسة الخارجية» للعراق تكشف وبشكل مؤلم أننا بلد لديه عدة سياسات خارجية تتعدد بتعدد قواه السياسية ومشاربهم وميولهم، ولذلك في كل مرة نواجه تحديا خارجيا نصدم بالعجز عن تجاوزه بطريقة أخرى غير نسيانه. بشكل مؤلم نقول إن جوار العراق على تنوعه يعتدي على حقوق البلد الترابية والمائية، ولكن عندما يأتي أوان الفعل ينقسم الفرقاء ولا يكتفي البعض مثلا بمعارضة السياسة الخارجية بل ويسعى إلى نقيضها، فالبلد الذي يخاصمه هذا السياسي، يصبح تلقائيا صديقا لسياسي خصم، وفي الحالتين، الصداقة والعداوة، الخسارة الكبرى هي لدولة العراق التي يفترض أن يكون لها صوت واحد وهدف واحد.

ينسحب الأمر نفسه على كل شيء آخر فيما يخص السياسة الداخلية، حتى الدستور ليس حتى اليوم وبعد أن استفتي الشعب عليه، هو في موضع الاتفاق، وعندما يقال تعالوا نعدل الدستور، نعيد إنتاج فشل عمره اليوم 6 سنوات منذ تشكيل أول لجنة لتعديل الدستور. يتحدث بعض السياسيين عن الوحدة وعن كون وجود العراق «مقدسا»، كلام رائع، لكن هؤلاء السياسيين أنفسهم هم جزء من طبقة سياسية فشلت حتى بعد ثمانية أعوام من التغيير في الاتفاق على علم جديد لدولة العراق، وفشلت في الاتفاق على نشيد وطني جديد، ما زال أبناؤنا يرددون نشيدا وطنيا غير عراقي، فالبلد الذي جيء له بملك من خارج حدوده، يبدو أيضا بحاجة لنشيد وطني يكتب ويلحن خارج حدوده، وعلم وضعت ألوانه وتضاريسه خارج حدوده (العلم الحالي كان أصلا علم الوحدة - الفاشلة - بين مصر وسوريا وقد جرت عليه تعديلات لم تغير شكله الأساسي)، بمعنى أن عجزنا عن الاتفاق حتى على الجوانب ذات الطابع الرمزي ليس له حدود سوى تلك التي تفرضها القوة الغريبة.

هل الأمر قاصر على الطبقة السياسية، هل بات جزءا من الواقع العراقي؟ أسئلة بحاجة للبحث العميق والمحايد، فمشكلة الإنسان العراقي غير السياسي أنه وبعد زمن طويل من الخضوع للأدلجة ولحكم الشعارات ولنظام أمني يفرض عليه أن لا يبوح بمشاعره الحقيقية، بات عاجزا عن أن يصنع فكره بمعزل عن لغة الشعارات.