أزمة العراق السياسية

TT

بين الدعوة لحكومة أغلبية سياسية وبين التوجه لانتخابات مبكرة، يقف الشارع العراقي منتظرا ما ستؤول إليه الشراكة بين الكتل السياسية، هذه الكتل التي كل منها يفكر وفق حجمه التمثيلي في البرلمان العراقي، هذا الحجم الذي لو نظرنا إليه رقميا جعلنا نتأكد بأن ثمة أغلبية سياسية من شأنها أن تقود البلد وتشكل حكومة، أما إذا نظرنا إليه ديمغرافيا فإننا نجد أن الأغلبية التي ستتحقق ستكون أغلبية مكونات على حساب أخرى وبالتالي سيكون هنالك ثمة شعور بالتهميش لدى بعض الأطراف، والسبب يكمن في أن البناء الحزبي للكتل السياسية هو السعي لبناء دولة المكوّن سواء العرقي أو القومي أو الطائفي، وبالتالي فإن الأحزاب الموجودة حاليا في السلطة التشريعية العراقية ممثلة بالبرلمان هي تمثل مكونات وليست أيدلوجيات وأفكارا سياسية.

لهذا نجد ومنذ انتخابات عام 2005 والتي يمكن أن تكون بداية بناء الدولة العراقية الحديثة حيث إن هذه الانتخابات أفرزت جمعية وطنية كتبت الدستور العراقي ونال ثقة الشعب، هذه البداية شرعت عملية بناء دولة المُكونات بدل دولة الشعب، والذي يطالع الكثير من الفقرات في الدستور العراقي لعام 2005 سيجد ثمة عدم ثقة تسود العلاقات بين المكونات الرئيسية منها والفرعية حيث عمد كل ممثل لمُكون من هذه المُكونات إلى تضمين الدستور ما يحفظ له مكانا في العراق الجديد.

لهذا وجدنا جميعا أن الدولة التي نراها اليوم في العراق ابتعدت كثيرا عن دولة المواطنة ودولة الشعب، من خلال التركيز على تذويب الهوية الوطنية على حساب الفئوية، وبالتالي وجدنا أن ما حدث في انتخابات عام 2010 هو تكريس حقيقي لدولة المكونات.

وربما البعض لا يعرف أن مفهوم الدولة بشكل عام يعني تلك القوة الاجتماعية المنظمة التي تمتلك سلطة قوية تعلو من خلالها قانونا فوق أي مكون داخل المجتمع وعلى أي فرد من أفراده دون تمييز مهما كان شأنه ونسبه وموقعه الاجتماعي وعرقه ودينه ومذهبه، وما يميز الدولة بمفهومها الوطني الشامل عن بقية المكونات والجماعات الأخرى في المجتمع، هو ذلك الاعتراف الاجتماعي الذي يعطيها حق القسر وطلب الطاعة لها من المواطنين بالقدر الذي يخوله الدستور والقانون، ويعطيها هذا الحق الأولوية على كل المكونات وكل الجماعات الأخرى في المجتمع مثل الأحزاب والحركات والتنظيمات السياسية المختلفة والمكونات الدينية والطائفية والإثنية، بما يعزز من الدولة وقانونها، هذه الرؤية غابت كثيرا وبرزت بالضد منها الرؤية الضيقة لمفهوم الدولة وحصرها في مكونات ضمن رقعة جغرافية محدودة داخل الدولة الكبيرة.

وبالتالي وجدنا أنفسنا أمام مأزق تشكيل الحكومة ومن يكون رئيسا لها؟ هذه المعضلة حلولها موجودة في الدستور العراقي، فالدستور لا يمنع الشراكة ولا يمنع الائتلافات والتوافقات، بل نجده في أكثر من مكان يحث عليها ويحرص على وجودها، ولكن ما حصل أن الجميع يريد أن يكون رئيسا للحكومة بأي طريقة كانت والجميع يبحث عن صلاحيات، ولعلنا لو عدنا بذاكرتنا لمرحلة ما قبل اتفاقية أربيل لوجدنا أن الكتل جميعها وصلت لنهاية مغلقة تماما، وبالتالي وجدت في اتفاقية أربيل مخرجا لأزمة الكتل السياسية ولكن هذه الاتفاقية لم تكن مخرجا لأزمة البلد وأزمة بناء الدولة المدنية الحديثة، لأنها ابتعدت عن الجزئيات في طروحاتها، على الرغم من أن نقطة الاختلافات بين الفرقاء والشركاء في العملية السياسية هي في الجزئيات وليست في العموميات المفروغ منها حتى قبل اتفاقية إربيل، لأن ثمة تحالفات حدثت بعد إعلان نتائج الانتخابات فرضت نفسها في اتفاقية أربيل.

قلنا بأن ما حدث في أربيل هو ترحيل الأزمة لمرحلة من المراحل وها نحن قد وصلنا إليها أي وصلنا للأزمة، ويقف العراق اليوم على عتبة جديدة من الخلافات السياسية وبالتالي وجدنا من يبحث عن مبادرة جديدة، والبعض يطرح حكومة أغلبية وأطراف أخرى تدعو لانتخابات برلمانية مبكرة.

وكلها حلول قد تكون مفيدة وقد لا تكون، فالانتخابات المبكرة والتي يجدها البعض مخرجا حقيقيا للأزمة لا يمكن أن تُجهز آلياتها وبياناتها ومواردها المالية قبل نهاية العام الحالي لأسباب فنية بحتة كما صرحت بذلك المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، والانتخابات المبكرة لمن لا يعرف تحتاج هي الأخرى لخطوات أولها حل البرلمان الحالي وإبقاء الحكومة على إنها حكومة تصريف أعمال، وهذا الإجراء يضر كثيرا بالعراق في المرحلة الحالية بالذات لكون هنالك عدد من القضايا المصيرية أولها مسألة الانسحاب الأميركي أو التمديد له، وهذا بحد ذاته يحتاج لقرار جماعي مسؤول، الجانب الثاني يتمثل في تعطيل السلطة التشريعية لفترة طويلة وهذا يعني تعطيل سن القوانين المهمة جدا وهذا ما يترك آثارا سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة.

أما مسألة تشكيل حكومة أغلبية سياسية فهي بعيدة في الوقت الحاضر لسبب رئيسي ومهم جدا يتمثل بأن ما موجود الآن من كتل في البرلمان هي كما قلنا تمثل مُكونات اجتماعية بغض النظر عن الشعارات المرفوعة وما يتداول في الإعلام، والسبب الثاني يكمن في أنه لا أغلبية لأحد على الآخر فالجميع بحاجة للجميع وهذا واضح جدا سواء من الناحية الدستورية ومفهوم الأغلبية في الدستور، أو من خلال توزيع المناصب الذي شمل الجميع دون استثناء وبالتالي سنجد أن الكتل السياسية وهي تتحاور من جديد لن تنظر إلا إلى ما حققت من مكاسب ومناصب من حكومات المحاصصة والشراكة.