«الربيع العربي» أمام «التركات» السياسية الثقيلة

TT

«المسؤولون السيئون يأتي بهم الناخب الطيب عندما لا يمارس حقه في الانتخاب»

(جورج جين ناثان)

في أسبوع عربي حافل، شهد على أرض السودان التقسيم «الرسمي» الأول لكيان عربي في مرحلة ما بعد جلاء الاستعمار، هناك أمور عديدة جديرة بالمراجعة على طريق الاتعاظ واستيعاب الدروس. فـ«الربيع العربي» يمر بتحديات كبيرة من شأنها اختبار قابلية «الانتفاضات» للنضج والسير إلى الأمام بأقل قدر ممكن من آلام «مرحلة المراهقة».

لا شك في أن تجارب ليبيا واليمن وسوريا، بالتحديد، أسهمت إسهاما مباشرا في خلق حالة مقلقة تستوجب المراجعة والتحليل، وهذا سواء كنتيجة لما ظهر من أنظمة هذه الكيانات من قدرة على التأليب والتفتيت وتمزيق النسيج الاجتماعي، أو ما ظهر من المجتمع الدولي من انتهازية هنا وميوعة هناك.. وازدواجية معايير على طول الخط وفي كل الحالات. لكن التجربة في كل من تونس ومصر أيضا، على الرغم من إيجابياتها الهائلة، ما زالت منقوصة وغامضة المصير.

وخلال الأسبوع نفسه، على مرمى حجر من سوريا، التي تتعرض مدنها وأريافها للقمع الدموي بحجة قطع دابر «الفتنة» (!!)، حصلت الحكومة اللبنانية الجديدة على ثقة مجلس النواب في اختبار برلماني قد يكون فريدا من حيث ديمقراطيته الحقيقية في عالمنا العربي.. طبعا، بقدر ما هو فريد بعبثيته.

فجلسة التصويت على الثقة في الحكومة مسألة ضرورية في بلد كلبنان، يمارس نوعا «خاصا» من الديمقراطية البرلمانية لا يقوم على أحزاب فعلية متمرسة في العمل الديمقراطي وتلتزم به وتدخل البرلمانات بأغلبيات محسومة عبر الانتخابات.. ذلك أن التكتلات والأحزاب اللبنانية ظرفية مؤقتة، وشخصانية إلى أبعد الحدود في بعض الأحيان. ولكن، ضمن واقع الانقسام الحاد الواضح بين تكتلين كبيرين يتقاسمان الآن مقاعد مجلس النواب، وفي ضوء الأسباب المعروفة التي أدت إلى نقل «الأكثرية» من فريق إلى آخر، كانت نتيجة التصويت محسومة سلفا.

ثم إن جلسات البرلمان اللبناني، كحال معظم البرلمانات، لا تهدف إلى إقناع الفريق الآخر بموقف ما، بقدر ما هي محاولة لمخاطبة الشارع وتبرير التوجهات السياسية المعتمدة.

وخلال سنوات «الوفاق الاضطراري» - بحكم سلطة الأمر الواقع - منذ فبراير (شباط) 2005، جرت العادة، على أساس تأليف حكومات «وفاق وطني» بين فريق له الأغلبية البرلمانية وفريق آخر لديه السلاح ويستقوي بدعم العمق الإقليمي. وبناء عليه، ابتُكِرت تشكيلات حكومية دُعيَت زورا بـ«الوفاقية» كان بمقدور الأقلية الممثلة فيها تعطيلها ساعة تشاء. ولذا، على الرغم من أن أحد الفريقين فاز في الانتخابات العامة مرتين عامي 2005 و2009 فإنه كان - عمليا - ممنوعا من الحكم، لأن الأقلية تمكنت عندما استقوت بالسلاح أولا، ثم استخدمته ثانيا، من فرض مشيئتها على حكومة يفترض أنها تحت رئاسة ممثل عن خصومها.

ما أردت قوله هو أن جلسة الثقة في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ما كانت ذات أهمية سياسية، لأن نتيجة التصويت فيها كانت محسومة قبل الدعوة إلى عقدها. غير أن خطب النواب من الفريقين المتصارعين، والمسائل التي تطرقوا إليها، والحجج التي طرحوها، لا سيما من فريق حاجبي الثقة الذي تحرر من تهمة «الأغلبية المزيفة»، كانت شهادة رائعة أولا بالديمقراطية اللبنانية رغم عوراتها وشواذها العديدة، وثانيا بنوعية عدد من الساسة يؤمنون - عن صواب أو خطأ - بأنهم ولدوا أحرارا ولا يمكن أن يموتوا إلا أحرارا.

للأسف لم أستمع لجميع الخطب التي ألقيت، ضد الحكومة ومعها، لكن بعض هذه الخطب التي سمعتها كانت من أرقى المستويات المعهودة في برلمانات دول ذات تقاليد ديمقراطية عريقة في ديمقراطيتها.

كمثال، أتصور أن ما قاله النائب جورج عدوان لم يكن إطلاقا أدنى مستوى من خطاب الاستقالة التاريخي الذي ألقاه السير جيفري هاو نائب رئيس الحكومة البريطانية السابق في مجلس العموم في نوفمبر (تشرين الثاني) 1990 وأعلن فيه سحب تأييده لرئيسة الوزراء مارغريت ثاتشر ومهّد الطريق نحو سقوطها.

مطالعة النائب والوزير السابق بطرس حرب كانت درسا بليغا في الرصانة والدراية البرلمانية والقانونية، كذلك تميزت في معسكر فريق المعارضة خطب الوزير السابق مروان حمادة، والنائب سامي الجميل، والنائب نهاد المشنوق.

أما من الموالاة، حيث تعزّ - عموما - الصراحة ويغلب الحرص على «التضامن الوزاري»، جاءت خطب نواب حزب الله، كالعادة، صريحة ومباشرة إلى حد القسوة. بل إن بعضها نسف فعليا اللهجة «التوافقية» التي تسترت خلفها الحكومة. وكان خطاب السيد محمد رعد، بالذات، استيحاء مباشرا من ثوابت ما قاله السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، إزاء اتجاه الحكومة التي يرعاها الحزب والتي «سيحرص على المحافظة عليها حتى انتخابات 2013».

من هذا السرد أود القول إن عالمنا العربي يستطيع السير إلى الأمام نحو احترام حقوق المواطنة و«دولة المؤسسات» إذا ما اقتنع ساستنا، بعد شعوبنا، بأنهم أحرار وأهل لتحمل المسؤولية وقادرون على إحداث التغيير الإيجابي المطلوب.

فإذا كان ساسة المعارضة في بلد كلبنان، هو عمليا بلد «محتل» ومغلوب على أمره ومبتلى بآفات الطائفية والفساد، يستطيعون الوقوف بشجاعة في وجه سلطة مستقوية بغلبة السلاح، ومواجهتها بالمنطق والحجة، أليس هذا ممكنا في أقطار أخرى كنا نسمع من قادتها أن أوضاعها أقل سوءا من لبنان؟

أليس العلاج اللبناني، على مرارته، أفضل ألف مرة من حصيلة نضال «شعبيات» معمر القذافي، ومنجزات «ممانعة» الحكم في دمشق تحت واجهة برلمان «الجبهة الوطنية التقدمية»، ومآسي «الحرب الأهلية التمزيقية» التي أفضت إليها في اليمن ديمقراطية «المؤتمر الشعبي العام»؟

إنها مجرد تساؤلات ساذجة حول ما إذا كان بعض رؤسائنا «التاريخيين» يدركون أهمية «التركة» السياسية التي من واجبهم تسليمها إلى من سيأتي بعدهم.. وهذا ما لم يصروا على ألا يتركوا بلدانهم إلا قاعا صفصفا أو «سودانات» مقسمة.