هموم جيرالد فورد

TT

سئلت في مجلس لندني؛ حيث أطراف الحديث وصلبه وقلبه حول علامة الاستفهام الماثلة فوق الشرق؛ متى نصبح دولة عادلة ورعية سوية؟ أجبت: عندما يصبح لدينا مواطن مثل جيرالد فورد، ورئيس مثل جيرالد فورد. ولم يفهم أحد ماذا أقصد، فشرحت. جيرالد فورد هو الذي انتخب نائبا للرئيس وصار رئيسا بعد استقالة ريتشارد نيكسون، ولم ينتخبه الأميركيون، لأنهم يفضلون جيمي كارتر القادم من مزارع الفستق، أو جورج دبليو بوش، القادم بالجزمة التكساسية.

لم يكن جيرالد فورد عبقريا، ولا محنكا، ولا داهية سياسيا. كان أعظم من ذلك بكثير. كان آدميا وأخلاقيا وحسن النية. لم يكن مثيرا للإعجاب بقدر ما كان مثيرا للتفكه. إذا نزل سلم الطائرة تعثر، وإذا روى نكتة أثار عداء البولنديين المتهمين بالسذاجة. لكنه كان رجل خير يبحث عن السلام في الخارج والرخاء في الداخل.

لم يلقِ جيرالد فورد خطابا تاريخيا، مثل خطب التنصيب الشهيرة التي تدرّس في المناهج السياسية والأدبية حول العالم، ولم يحقق في الفترة القصيرة التي قضاها في البيت الأبيض أي إنجاز سياسي. وبعد خروجه مال إلى العزلة ولم يدر حول العالم محاضرا أو مبعوثا لبلاده، مثل جورج بوش الأب، أو بيل كلينتون، أو جيمي كارتر.

كان من وقت إلى آخر يعطي مقابلة صحافية هنا أو مقابلة هناك. وذات مرة سُئل عن المسألة التي تقلقه حاليا أكثر من سواها، فلم يفكر طويلا. قال: إن حفيدي طفل الآن، وعندما يبلغ سن الجامعة فسوف يكون القسط قد تعدى المائة ألف دولار. وأعتقد أن أهله سيكونون قادرين على تأمين التكاليف، لكن كم من أترابه سوف يقدرون على ذلك أيضا؟!

قلت للأصدقاء السامعين: نحن تعودنا أن يكون عمر ضمير المسؤول من عمره. ومن بعده الطوفان، كما قال لويس الرابع عشر. لكن الحاكم الحقيقي هو الذي يتصل ضميره بمستقبل أحفاده. هو ذلك المزارع البسيط الذي سئل لمن يزرع الصنوبر وهو في الثمانين، فقال: زرعوا فأكلنا، ونزرع فيأكلون.

الرئيس العربي لا يهمه شيء عن أتراب حفيده. ومع الاعتذار الشديد، أحب أن أسأل: كم جامعة بنيت في العالم العربي في ربع القرن الأخير؟ وأحب أن أسأل إن كان هناك جامعة أعلى مستوى من الأميركية في بيروت والقاهرة، بعد أكثر من قرن على قيامهما.

عندما يأخذ الحاكم (أو المواطن) في التفكير مثل جيرالد فورد نكون قد بدأنا الدرب نحو الوطن والمواطن. أما التعامل مع الدولة على أنها فرصة سانحة؛ إما أن تتكرر وإما أن تدمّر، فلا يكون لنا إلا ما نحن فيه: مواطن نام أربعين عاما حتى نسي حقوقه، وحاكم سها أربعين عاما حتى نسي موعد الذهاب.

ساذجة حول ما إذا كان بعض رؤسائنا «التاريخيين» يدركون أهمية «التركة» السياسية التي من واجبهم تسليمها إلى من سيأتي بعدهم.. وهذا ما لم يصروا على ألا يتركوا بلدانهم إلا قاعا صفصفا أو «سودانات» مقسمة.