يخافون بهدلة الأساتذة!

TT

لا أنسى أول محاضرة ألقيتها في كلية الآداب.. وقفت إلى جوار السبورة لكي يعرف الطلبة أنني مدرس الفلسفة الجديد.. ولا بد أنني كنت مكشرا.. وفي يدي قطعة من الطباشير.. وكانت دقاتها على السبورة مثل دقات المدفع أو دقات المسرح أو الدقات الموسيقية في بداية السيمفونية الخامسة لبيتهوفن.. كان صداها في إذني ودماغي وكياني كله أقوى وأعنف. ولا أدعي أنني كنت أرى أو أسمع.. وكانت أمواج من الضباب تتحرك حولي في القاعة.. طلبة يدخلون ويتهامسون.. وفجأة هدأ كل شيء.. وأنا أقول لهم: المقرر طويل جدا.. وصعب جدا.. ولا بد من اليقظة منذ اللحظة الأولى.. وسوف أكتب لكم المراجع بالإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية واليونانية واللاتينية.

وكان هدفي أن أؤكد لهم أنني المدرس.. وأن أسكتهم.. وأن أشغلهم عن النظر ناحيتي.. ولكن لم يحدث شيء من كل ذلك.. ففي اليوم الأول من العام الدراسي يأتي الطلبة ليتعارفوا.. ومن النادر أن يكون مع واحد منهم قلم أو ورقة.. إذن فسوف ينظرون إلي بدهشة واستغراب وسوف يدركون مدى ارتباكي وحيرتي والعرق على وجهي..

إذن فهذه الحيلة لم تنفع!

وتلاشت الصدمة الأولى والأخيرة.. واعتدت على مواجهة الطلبة بالألوف.. ولعشر سنوات.. مع قليل من العرق على الوجه وفي اليدين!

ولأدباء آخرين أفعال وردود أفعال أخرى:

قال لي المرحوم يوسف السباعي إنه لم يكن يتلعثم كما يبدو عليه أحيانا.. وإنما أصيب بذلك بسبب خجله في مواجهة الطلبة في الكلية الحربية.. قال لي صديق إن سبب سلاطة لسان الأساتذة أحيانا ليس أنهم كذلك.. وإنما رغبتهم في مواجهة الطلبة بالعدوان عليهم وإسكاتهم وإحراجهم.. وبعد ذلك تصبح عادة.. الأساتذة يتولون ذلك والطلبة يستمعون إليه.. ويضعون أيديهم في جيوبهم فلا يسألونهم عن شيء.. إنهم يخافون بهدلة الأساتذة!

في حفلة أقيمت للأديب الإنجليزي ج. ولز حضرها مئات الأدباء والناشرين.. طلب واحد منهم أن يجلس إلى جوار الأديب.. وفي نهاية الحفل خرج غاضبا لأنهم لم يمكنوه من الجلوس إلى جواره.. فقالوا: بل يجب أن تقنع بنصيبك فقد تكلمت كثيرا..

قال الرجل: تكلمت كثيرا إلى من بجواري.. لأنني في حالة غضب.. فقد كنت أحب أن أجلس إلى كاتبي المفضل ولو لعشر دقائق..

فقالوا: إنك جلست وتحدثت إليه طوال الوقت! ولم يكن الرجل يعرف أن الذي جلس إليه وناقشه هو ج. ولز نفسه.. وسكت الرجل وقال: شيء غريب.. هذا الذي لا يعرف كيف يتكلم؟! لقد سألته إن كان قد قرأ كتابا واحدا من تأليف ج. ولز فقال إنه لم يقرأ ولا يحب ذلك.. وهذا هو الذي ضايقني أكثر!