الدولة ما بعد الرخوة!

TT

في وقت من الأوقات، كان أستاذ علوم سياسية مهم في السويد، واسمه ميرالد، قد أطلق وصف «الدولة الرخوة» على نوع معين من الدول موجود في العالم، وكان قد قصد أن يقول: إن الدولة في هذا العالم الذي نعيشه إما أن تكون دولة طبيعية وقوية، وإما أن تكون العكس، فلا تكون دولة طبيعية، ولا قوية!

وكان القصد، ولا يزال، أن الدولة كمؤسسة، إنما قامت في الأساس وفق نظرية العقد الاجتماعي الشهيرة، وهذه النظرية تقول إن الدولة، أي دولة، إنما هي في النهاية أرض، وشعب يعيش عليها، ثم قانون يحكم العلاقة بين أفراد هذا الشعب، على هذه الأرض.

وبطبيعة الحال، فإن القانون هنا، لن يطبق نفسه، ولن يأتي له رجال من المريخ ليطبقوه، وإنما سوف يطبقه ناس من أبناء الشعب ذاته، وسوف يكون على هؤلاء الناس الذين عليهم تطبيق القانون أن يعدلوا بين المواطنين، وأن يوفروا لهم الخدمات العامة المختلفة، التي لن تكون أولاها الأمن، ولا آخرتها العيش في ظروف آدمية!

ولكن، ماذا لو اكتشف المواطنون، في أي دولة، أن القائمين على شؤون الدولة غير قادرين على الوفاء بوعودهم تجاه كل مواطن، وغير مهيئين، ولا مؤهلين للنهوض بالمسؤولية الملقاة عليهم؟!

عندئذ، يصبح من حق مجموع أفراد الشعب أن يفسخوا هذا العقد الاجتماعي، إذا صح التعبير، لكن ليس بهدف إشاعة الفوضى في الدولة، وإنما بقصد المجيء بآخرين قادرين على أن يحكموا، وأن يقودوا، وأن يديروا، وأن يحسنوا تدبير الشأن العام. وبطبيعة الحال فإن هذه العملية كلها على بعضها، تدار حسب قواعد، وأسس، ومبادئ عامة، وضعتها الدساتير المعاصرة في كل بلد، بحيث تضمن ألا ينفرط عقد الدولة، في أي عملية انتقال للعقد، من مجموعة حاكمة للدولة، إلى مجموعة حاكمة أخرى ترى من خلال برنامج عام، ومعلن، ومطروح على الناس، أنها أقدر على إدارة ثروات البلد، لصالح أهله، سواء أكانت هذه الموارد من البشر أم الحجر!

وهنا يثور سؤال آخر: ماذا لو كانت الحكومة، في أي بلد، لديها من القوانين ما يكفي لحكم أهل الأرض جميعا، ثم تظل عاجزة، في الوقت نفسه، عن حكم ناسها، ويظل القانون قائما، ولكنه يبقى غير مطبق؛ لأنه، كما قلنا، لا يمكن أن يطبق نفسه بنفسه، ولا أن يطبقه آخرون من خارج الدولة، وإنما تفعل ذلك معه إرادة حاكمة تخرج من بين الناس؟

هذه الحالة بالضبط، أي حالة وجود القانون الكفيل بضبط أمور الدولة، ثم العجز عن تطبيقه، هي الحالة التي أطلق عليها أستاذ العلوم السياسية السويدي اسم «الدولة الرخوة»، وهي، في هذا السياق، دولة تضع القوانين، وتصنعها في برلمانها، وتصدرها، وتطبعها في كتب، ثم تبقى القوانين، بعد هذا كله، بلا روح، وبلا عائد، وبلا جدوى في حياة الناس إجمالا!

وقد كان المرء يتمنى لو أن أستاذ العلوم السياسية، السويدي إياه، قد استطاع أن يفرق بين «الحكومة الرخوة» و«الدولة الرخوة».. لا لشيء إلا لأن اسم الدولة «عام» أكثر من اللازم، ويعبر، حين يقال، عن حالة تجمع بين الناس والأرض التي يعيشون عليها، أكثر من تعبيره عن حالة لإدارة حاكمة، عندها إرادة تحكم بها.

أما الحكومة، فعلى الرغم من أنها كلمة «عامة» هي الأخرى، فإنها محددة إلى مدى من نوع ما؛ لأنك حين تتحدث عن الحكومة المصرية - مثلا - فأنت تشير إلى كيان له رئيس، تستطيع أن تسميه، وفي داخله أعضاء، تستطيع أيضا أن تحصيهم واحدا واحدا!

نقول هذا الكلام على الرغم من اعترافنا بأن اسم «الحكومة» جرى استخدامه كثيرا، على سبيل خداع الناس، ولو أن أحدا عاد إلى خطاب الإدارة الأميركية، أثناء الثورة المصرية في 25 يناير (كانون الثاني) الماضي، فسوف يلاحظ أن إدارة الرئيس أوباما كانت تتحدث طوال الوقت عن «الحكومة المصرية» وكيف أن عليها أن تستجيب لرغبات المتظاهرين، وتلبي طموحاتهم.. وقد كانت تلك الإدارة المنافقة تردد هذا الكلام وهي تعرف تماما أن الحكومة المصرية التي كانت هي كإدارة أميركية تخاطبها لم يكن لها حول ولا قوة، وأن الحول كله والقوة كلها كانا في يد رئيس الدولة، شخصيا.. ومع ذلك، فقد كانت الإدارة الأميركية تفعل هذا، وتكرره، عن وعي كامل طبعا؛ لأنها كانت - من ناحية - غير راغبة بصراحة في إحراج الرئيس مبارك - وقتها - وكانت في الوقت نفسه، من ناحية أخرى، تريد أن تظهر للعالم أنها تقف إلى جوار الثوار والمتظاهرين والمطالبين بالإصلاح، بما يعني في النهاية أن الموضوع كله لم يكن يتجاوز الشكل من جانب تلك الإدارة، ولم يكن، والحال هكذا، ينطوي على أي مضمون جاد!

فإذا عدنا إلى أساس موضوعنا، وهو «الدولة الرخوة» والدولة «غير الرخوة»، اكتشفنا أن أستاذ العلوم السياسية لم يكن يخطر بباله أن الأيام سوف تكشف له، من خلال الممارسة في الحكم، عن أن هناك نموذجا آخر، هو نموذج ما بعد الدولة الرخوة، وأعني به هنا تحديدا نموذج الدولة التي يلجأ فيها بعض أهلها إلى وضع قانونهم الخاص، ثم يطبقونه بأنفسهم، على أنفسهم، بينما الدولة تتفرج، وكأن الأمر لا يعنيها!

وقد كان المثال الصارخ لهذا النموذج من الدول هو ما جرى في كلية الآداب بجامعة القاهرة، خلال أسابيع مضت، فقانون تنظيم الجامعات في مصر يقضي، حتى هذه اللحظة، بتعيين رئيس الجامعة وعمداء كلياتها، ويقوم بذلك رئيس الدولة، بالنسبة لرؤساء الجماعات، ثم رئيس الجامعة ذاته، بالنسبة للعمداء، ومع ذلك، فإن ما حدث في آداب القاهرة هو أن أساتذتها قرروا فجأة، من تلقاء أنفسهم، انتخاب عميد للكلية، بخلاف العميد الموجود فعلا، والمعين من قبل الدولة، وانعقدت الانتخابات بالفعل، على الرغم من انتخاب عميد جديد، وأصبح للكلية عميدان: واحد معين، وآخر منتخب!

لست، بالطبع، ضد أن ينتخب الأساتذة عميدهم، وإنما أنا معهم في أي كلية، وليس في آداب القاهرة وحدها، ولكن بشرط وحيد، هو أن يجرى الانتخاب وفق قانون قائم ينظمه، ويضع معاييره، ويضبط مقاييسه، وإلا تحولت الحكاية إلى فوضى، وأصبحنا أمام نموذج ليس فقط للدولة الرخوة، وإنما للدولة ما بعد الرخوة، التي يتجاسر بعض أبنائها على إدارة شؤون عملهم، على أساس قانون وضعوه هم، وليس الحكومة!

والشيء المدهش أن إحدى الصحف المصرية خرجت قبل أسبوع من الآن، وفيها تصريح للدكتور عمرو عزت سلامة، وزير التعليم العالي، يقدم فيه مقترحات لتعديل قانون تنظيم الجامعات، بما يكفل اختيار قادة الجامعات، بطريقة يرضى عنها أعضاء هيئة تدريسها، وفي اليوم نفسه، كانت صحيفة أخرى تنشر حوارا مع عميدة آداب القاهرة المنتخبة، تقول فيه إن استقالتها جاهزة، إذا حاول الأمن التدخل في شؤون الجامعة!

الوزير كان يتكلم عن «اختيار» بمعنى تعيين رؤساء الجامعات وعمدائها في المستقبل، بينما كانت العميدة الجديدة تتكلم عن «انتخاب» تم فعلا، وكأن الاثنين ينتميان إلى دولتين، وليس إلى دولة واحدة!

تسألني عن السبب فأقول: لو قام العدل بين الناس، ما نشأت الدولة الرخوة بيننا في عالمنا العربي أساسا، وما كانت قد تطورت إلى ما هو أخطر.. إلى الدولة ما بعد الرخوة.. ولا أحد بالطبع يعرف ما الحلقة التالية في هذا التطور الطبيعي أو غير الطبيعي، لمراحل تطور الدولة!