الديمقراطية في المغرب

TT

خلال زيارتي إلى طنجة، الجمعة قبل الماضي، الأول من يوليو (تموز)، تركت غرفتي بفندق الأطلسي في الساعة الخامسة صباحا للتنزه والسباحة في المحيط الأطلسي. كنت أتطلع إلى البحر. وهناك رأيت أمواجا لا نهائية تغير وجه البحر باستمرار. كان لون الأمواج دائم التغير؛ فأحيانا ما يغلب عليها اللون الأزرق الداكن، وأحيانا أخرى تكون قرمزية أو رمادية داكنة. كانت المياه لامعة كاللجين السائل. قلت لنفسي إن المجتمع كالبحر، يحتوي على الكثير من الألوان وعدد لا نهائي من الأمواج، لكن من يستطيع أن يصنع زيا موحدا لدولة ويجعلها ترتديه؟ وقلت: إذا اعتبرنا هذا المحيط الآمن رمزا للديمقراطية، يمكن اعتبار التسونامي شبيها بالثورة.

وفي هذه الأوقات المحورية التي يعيشها الوطن العربي، الربيع العربي، بات من الواضح للعيان وجود توجهين داخله؛ أولهما بعض الناشطين والأحزاب السياسية الذين يعتقدون أن الثورة هي الحل لكل المشكلات القائمة، ويريدون تغييرا جذريا في شكل نظام جديد. والثاني يتمثل في الممثلين عن الأحزاب والناشطين السياسيين والاشتراكيين الذين يدعمون الإصلاح في بلادهم. هذه هي طبيعة أو جوهر البشر في ميلهم إلى المغالاة.

ويصف القرآن الكريم تلك الطبيعة البشرية بوصف الإنسان بكلمة «عَجُول»، فيقول الله عز وجل في سورة الأنبياء، الآية 37: «خُلِق الإنسان من عجل».

وينقل الماوردي في تفسيره «النكت والعيون» ثلاثة تفسيرات مختلفة لهذه الآية:

‎أحدها: يعني خُلِق الإنسان عجولا، قاله قتادة.

‎الثاني: خُلِقت العجلة في الإنسان، قاله ابن قتيبة.

‎الثالث: يعني أنه خُلِق على حُبّ العجلة.

‎والعجلة تقديم الشيء قبل وقته، والسرعة تقديمه في أول أوقاته.

وأود أن أستعرض التفسير الأخير ببعض الشرح، لأميز بين العجلة والسرعة، وأذكر قول الملك الحسن: إن الديمقراطية ليست نسخة للتطبيق في كل مكان، وإنها يجب أن «تُمنَح» جرعة جرعة، وليس دفعة واحدة.

وأعتقد أن المغرب على الطريق الصحيح ليصبح بلدا ديمقراطيا، فعندما شاهدت المنشورات الدعائية في شارع الملك محمد الخامس، وموزعة على الشاطئ، قلت لنفسي: هل الشعب المغربي يثق في ملكه؟ وهل الربيع العربي له وجه آخر في المغرب؟

في الثاني من يوليو، يوم افتتاح منتدى أصيلة، قلت لنفسي إنها لفرصة طيبة أن أرى طنجة وأتحدث إلى الجيل الجديد. كانت الساعة السادسة والنصف. ورأيت مجموعتين من الشباب، كانت كل منهما تتكون من ستة إلى سبعة أشخاص. كانوا يمارسون الصيد، وكانوا متناغمين في جر الحبل، كانت تلك رقصة غريبة، وكان أحدهم ينشد:

كلنا كأسه في يده نغتنم ساعة هنيه

‎‎والمليح قلبي يريده ينشرح بين يديه

ومع ترديد كلمتي «هنيه» و«يديه» يتراجع الصيادون خطوة إلى الخلف. وخطوة بخطوة يجرون الحبل، وقلت لنفسي هذا هو لب الحياة في طنجة، هذا أجمل من أي قصة، وقلت لشاب: «مرحبا بشباب».

كان يجذب الحبل وهو ينظر إلي ويبتسم. وسألته: ما مدى طول الحبل؟

- قال لي: ألف متر.

وقلت له: متى تصل الشبكة إلى الشاطئ؟

- رد علي: بعد ساعة.

وسألته: اليوم سيعقد الاستفتاء؛ فهل ستشارك فيه؟

بدا لي أن الشاب في العشرين من عمره وربما أقل، كانت قبضته قوية، ورأيت قطرة دم بين أصابعه، وعيناه لامعتان. قال لي: ما رأيك فيه؟ وما الاستفتاء؟ هل سيجعل من الحصول على عمل أكثر سهولة بالنسبة لي ولأصدقائي؟ نحن جميعا عاطلون عن العمل، نحن نأتي هنا لاصطياد الأسماك فقط، وهذه ليست وظيفة حقيقية. ما نجنيه لا يكفي لمجرد حياة بسيطة، لكني سأشارك في الاستفتاء، وسأصوت بنعم! ليس هناك من سبيل آخر غير ذلك. المغرب بلدنا والملك محمد نواياه طيبة، فهو يسافر إلى كل أرجاء البلاد، وأحيانا ما يقيم في قرية صغيرة في مناطق جبلية. لكن بالنسبة لي فإن الحصول على وظيفة أهمية قصوى، وأولوية بالنسبة لي.

كانت الساعة السابعة والنصف، وكانوا لا يزالون يجرون الشبكة، وكان بين الشباب صندوق بلاستيكي خاو به بعض الأسماك القليلة في الشبكة. كانت بعض الأسماك تتألم على الرمال، وكانت ألوان الرمال أشبه بلون القهوة. أخذ حسن سمكة صغيرة للغاية في يده، حتى إنه يمكنه إخفاؤها داخل قبضته. كانت عينا السمكة تُفتحان وتُغلقان سريعا. وقال: هذه للملك محمد. وألقاها مرة أخرى في البحر.

كان البيان بعنوان «‎مشروع الدستور الجديد.. ‎التحول الديمقراطي الكبير للمغرب».

وتقول المادة الرابعة عشرة من الفصل الخامس: ‎توسيع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية: الصحة.. الحماية الاجتماعية.. تعليم.. سكن لائق.

هذه هي الرسالة الحقيقية للديمقراطية، لا مجرد دعاية سياسية لا تسمن ولا تغني من جوع.

كان لحسن أخ توأم اسمه حسين. وقد توفي أخوه في سن الثانية عشرة؛ فلم يذهب إلى مدرسة على الإطلاق. كان والده مريضا وعاطلا عن العمل. وترك حسن المدرسة أيضا في سن الحادية عشرة. وعندما روى حسن عن حياته لي، كنت أتذكر رواية محمد شكري الرائعة «الخبز الحافي»، لكن حسن ليس شيطانا، بل هو بريء، كان مليئا بالآلام والأحلام. وقد جاء في الفصل الثامن: ‎ملكية مواطنة ضامنة لأسس الأمة، وتضطلع بمهام سيادية وتحكيمية.. ‎حذف كل إشارة إلى قداسة شخص الملك.

قد يدعم الكثير من الناشطين السياسيين مثل هذه الخطوة، فهي خطوة عظيمة إلى الأمام. لكنني ما زلت أفكر بشأن حسن وأصدقائه على شاطئ البحر، وقد أخبرني صديقي العزيز، محمد بن عيسى، أنه خلال وجوده في فندق «رافاييل» في باريس، استمع إلى كلمة الملك محمد. وقال لي: «لقد صفقت له. كانت خطبة رائعة». كنت وحدي في الغرفة. لكني كنت لا أزال أفكر بشأن حسن؛ لماذا لم يذهب حسن إلى المدرسة؟ ولماذا لم يحصل على وظيفة مناسبة؟ ولماذا مات أخوه بسبب الفقر؟

واسمحوا لي بأن أكون صريحا؛ ففي الشرق أو أفريقيا، تبدو الديمقراطية كعرض أو ساحة عرض. بداية نحن بحاجة إلى بناء دولتنا، كيف يمكننا أن نقيم العدل في مثل هذا المستوى المرتفع من البطالة؟ فالديمقراطية فاكهة التنمية، والعكس بالعكس صحيح.

ولسوء الحظ، فإن مجتمعاتنا مليئة بأشباه حسن وحسين. إنها المسؤولية الأولى لكل حكومة لخفض آلام ومعاناة أفرادها، ينبغي علينا التفكير بشأن مصلحة الأفراد. والشعارات السياسية أشبه بزبد البحر، فربنا، عز وجل، يقول: «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» (الرعد: الآية 17).