من المحظورة إلى «المحظوظة»!

TT

كما هو معروف لكل متابع للتاريخ السياسي المصري الحديث، تعتبر جماعة الإخوان المسلمين جزءا من الحراك المكون للانقلاب العسكري الذي حصل عام 1952 وأطاح بحكم الملك فاروق، فلقد كان أكثر من واحد من الضباط الأحرار الذين شكلوا قيادة الانقلاب ينتمون أو يتعاطفون بشكل أو بآخر مع جماعة الإخوان المسلمين، وهذا كان جزءا من التركيبة المعقدة لتوجهات الضباط الأحرار الذين سرعان ما انقلبوا على جماعة الإخوان المسلمين انقلابا حادا بعد أن اتهموهم بمحاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في حادثة المنشية الشهيرة بالإسكندرية (وهذا يذكرنا بالانقلاب السياسي الذي حصل بين الضباط الأحرار والولايات المتحدة الذي بدأ كعلاقة تحالف وثيق ثم تحولت إلى عداء حاد، مجبرا القيادة المصرية على الاتجاه شرقا نحو معسكر الاتحاد السوفياتي).

وبعد رحيل عبد الناصر من الحكم ووفاته، جاء أنور السادات ليغازل التيار الديني المتمثل في الإخوان المسلمين، وذلك ليواجه ويضرب به التيار الشيوعي الاشتراكي الذي كان شديد الإزعاج بالنسبة إليه وكان تركة «ناصرية» بامتياز تشكك في جميع توجهات السادات وتخون من نواياه بشكل مستمر ومتواصل، ودفع السادات حياته ثمنا لانفلات الإسلام السياسي وتصاعد الأفكار المتشددة الموتورة فيه، وهو الذي تسبب في أن يكون لخلفه حسني مبارك حساسية مفرطة من السماح الرسمي والعلني لأي نوع من الجماعات الإسلامية بممارسة دورها السياسي بشكل ظاهر، وكان بالتالي الأمر الرسمي وتحديدا على الجماعة الأقدم والأكثر فعالية في الساحة السياسية المصرية، والمقصود هنا طبعا هو جماعة الإخوان المسلمين، أن تكون محظورة، وبات هو الاسم المتداول بحقها إعلاميا ورسميا.

لكن الجماعة «المحظورة» لم يتوقف نشاطها، واستمرت في نشر فكرها واستقطاب الأعضاء والأموال بشكل مؤثر وفعال، مما مكنها من الوصول، وبأعداد جيدة، لمجلس الشعب، على الرغم من الحملة الأمنية والإعلامية المركزة ضدها (وهو الذي قد يكون أسهم بشكل غير مباشر في توليد تعاطف شعبي معها نكاية في رموز الحزب الوطني المكروه شعبيا جدا أمثال صفوت الشريف وأحمد عز وجمال مبارك نفسه)، وزادت المواجهة ضد الجماعة ورغب منشقون عنها في تشكيل أحزاب سياسية «وسطية» بمبادئ ذات مرونة أكبر، لكن السلطات السياسية المصرية رفضت التصريح لها باعتبار أن ذلك ما هو إلا مجرد وسيلة للتحايل على الأنظمة وتمرير حزب يمثل الجماعة، إنما بشكل جديد. واليوم يبدو المشهد السياسي في مصر وكأنه ينقل حال جماعة الإخوان المسلمين من حال الجماعة المحظورة إلى الجماعة المحظوظة، فهي اليوم تحولت في ذهنية المصريين إلى لاعب أساسي على الساحة، وذلك على الرغم من أن عناصرها لم يشاركوا في ثورة «25 يناير» إلا بعد انقضاء أيام، وكانوا حذرين جدا من الحراك الشبابي ويشكون في جدارته، لكن عندما كبرت أعداد المتظاهرين وزاد القبول العام لها وظهرت علامات وهن النظام استغلت الجماعة الفرصة ودخلت أرض المعركة.

وهذه الأيام يبدو أن حظ الجماعة «ماشي حاله!»، فالكل يرغب في خطب ودها، فهاهو المجلس العسكري الحاكم لا يخفي بوادر التنسيق مع ممثلي الجماعة في كل الحوارات والاجتماعات، وشباب الثورة ينسقون مع الجماعة في أي اعتصام أو «مليونية» كبرى حتى يضمنوا الحضور العددي المؤثر في الشارع، وهاهي الولايات المتحدة نفسها تقر وتعلن أنها قررت فتح قنوات مباشرة للتحاور مع الجماعة بعد سنوات من التشكيك والإعلان الصريح بأنها لا تثق في توجهات الجماعة ونواياها بالمطلق، حتى مرشحو الرئاسة المصرية (الذين حتى هذه اللحظة لا يوجد أي منهم يمثل الجماعة كأصيل أو كمدعوم منها)، إلا أن هناك قلة منهم ممن يصر على إبراز رأيه الداعم لسياستها أو التركيز على أنه كان يوما ما عضوا فيها وكان لاعبا وعنصرا مؤثرا كذلك.

من الواضح جدا أن الجماعة قررت ألا تكون «ملكا»، لكنها ترغب أن تكون «صانع ملوك» كما هو معروف سياسيا، فهي ترغب في أن يكون ملعبها هو الدستور والتشريع وليس الحكم في المنصب بشكل مباشر، فهي على قناعة أن قوتها المستمدة من الوجود العددي (والرقم العددي لا يزال مجهولا، فهي تروج لنفسها ثقلا أكبر بكثير مما يليق بعدد أعضائها البالغ 300 ألف) ستمكنها من تغيير الأنظمة والتشريعات لكي تطبق سياستها وأهدافها، وهو الذي لن يكون ممكنا في حالة الاكتفاء بالمنصب الشكلي وحده، خصوصا في ظل التركيز المتزايد على أهمية دور البرلمان ودور رئيس الوزراء على حساب رئيس الجمهورية المرشح أن يتقلص دوره التنفيذي بشكل كبير حسب التوجهات الجديدة المرغوبة في الشارع السياسي المصري اليوم.

الحظ مسألة وقتية، ينفد بسرعة كما يأتي سريعا، وحالة النشوة التي تحياها اليوم جماعة الإخوان المسلمين هي نتاج مباشر للفراغ السياسي والفوضى العارمة الطبيعية لما بعد الثورة، لكنها لن تستمر.

[email protected]