النسيان بين الكهنوت

TT

يناقش أفلاطون في جمهوريته الفرق بين الفلسفة والشعر. فيرى أن الشعر معرض للنسيان في حين أن الفلسفة تخلد لأنها تتعامل مع الحقائق. ولهذا لم يعط أي مكانة في مدينته الفاضلة «الجمهورية» للشعراء والفنانين. وكان أستاذه سقراط قد تناول هذا الموضوع بشكل آخر فراح يفسر لماذا يسخر ويضحك الناس على الفلاسفة ومظهرهم المبهدل. يقول إن ذلك يعود لأن الفلاسفة مشغولون بالتفكير والسعي وراء الحقائق وتفسيرها وليس بالأمور اليومية العارضة.

ينطبق ذلك على الكثير من رجال الدين، ولا سيما المتصوفة منهم لانشغالهم بالذات الإلهية.

يورثهم ذلك الذهول والنسيان. وهذا ما يجعلهم عرضة لسخرية الظرفاء. فقلما تدخل مسرحا كوميديا في الغرب دون أن تسمع الممثلين ينكتون على رجال الدين. الأخيار منهم مشغولون بالتفكير في التقرب لله، والأشرار منهم مشغولون بالتفكير في مخادعة الجمهور وغشهم. اشتهر معظم قادة الفكر الديني بظاهرة النسيان والذهول، وعلى رأسهم ذلك الرائد المسيحي توماس اكوينس الذي رسم الخطوط الآيديولوجية للمسيحية في أوروبا القرون الوسطى.

المظهر المألوف لرجل الدين إطلاق العنان لشعره. يظهر دائما بلحية وجدائل طويلة. والطريف أن ذلك ينطبق على الكهنوت في سائر الأديان. قالوا خرج رجل منهم في سفرة طويلة مع حلاق ورجل أصلع وأملط. أدركهم الليل فقرروا المبيت حيث كانوا على أن يتولى واحد منهم الحراسة بالتناوب. وقعت القرعة أولا على الحلاق ونام الآخران. سرعان ما شعر الحلاق بالضجر والملل فسعى لإشغال نفسه بحلاقة شعر رجل الدين. انتهت نوبته وحل موعد رجل الدين فأفاقه ليتسلم الحراسة. مد الكاهن يده إلى رأسه فلم يجد أي شعر على رأسه أو ذقنه فقال للحلاق. ليس أنا. لم تحل نوبتي بعد. اذهب وأفق رجل الدين! الفكرة طبعا هي أن الكاهن يعيش بلحيته ويفقد شخصيته دون لحية.

هناك كثير من الطرائف المتعلقة بنسيان الكهنة. منها ما شهدته في جنازة زميلي الإذاعي فرنسيس. زودنا الكاهن بالحقائق الأساسية عن حياة الفقيد وأنه كان من أبناء القدس. لسوء الحظ كانت هناك جنازة أخرى لسمكري. ولكن الأمر اختلط على القس فراح يتلو تأبينه لزميلنا المقدسي على السمكري وتأبين السمكري على الراحل فرنسيس! ومثلها ما جرى في حفلة قران في الكنيسة فأخطأ القس وراح يتلو نصا جنائزيا للتأبين بدلا من نص عقد الزواج!

من أطرف ما سمعته من نسيان الكهان، كان عن قس انطلق يعظ جمهوره فقال إن أحلى يوم في حياته مر به عندما كان في أحضان امرأة. مسك السامعون أنفاسهم لهذه الفضيحة. ولكنهم سرعان ما انفجروا بالضحك والتصفيق عندما أضاف: وكانت تلك المرأة والدتي.

كان بين الحاضرين قس آخر أعجبته الحكاية البليغة فقرر استعمالها في كنيسته. انطلق فقال أبشركم بأن أحلى يوم في حياتي.. إلخ. فصعق المستمعون ثم مضى ليقول الجملة الثانية ولكنه نسي كليا ما قاله زميله. راح يفكر ويفكر، ومضت عدة ثوان وهو يفكر حتى لزم أن يقول شيئا فقال: «ولا أتذكر الآن من كانت تلك المرأة!».