مستقبل الاقتصاد الصيني والتنمية السلمية

TT

بينما الصين في طريقها إلى أن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم، خصوصا في ظل حاجة الاقتصاد العالمي إلى التخلص من تأثير الأزمة المالية، وتواجه أكثر الدول المتقدمة صعوبات في الوقت الحالي، لفت الاقتصاد الصيني أنظار العالم. وفي الوقت الذي يشعر البعض فيه بقلق من سقوط إجمالي الناتج المحلي الصيني للفرد، الذي وصل إلى 4 آلاف دولار أميركي، في فخ الدخل المتوسط، يوشك الاقتصاد الصيني على الدخول في مرحلة معرضة للصراع ما من شأنه أن يؤدي إلى توقف النمو الاقتصادي.

وعبر آخرون عن قلقهم من الاقتصاد الصيني التضخمي أو المحموم (الذي تخفق فيه القدرة الإنتاجية على مجاراة الطلب) وارتفاع معدل التضخم وعدد السكان المتقدمين في العمر. لا يمكن إنكار أن النمو السريع للاقتصاد الصيني تقابله زيادة في التحديات والصعوبات. لكن لدينا كل الأسباب الوجيهة التي تجعلنا نثق في مستقبل الاقتصاد الصيني («10 أسباب لاختلاف الصين» - «بروجيكت سنديكيت» 27 مايو/ أيار 2011).

والأهم من ذلك أن الصين تتمتع بمميزات خاصة في ما يتعلق بالنمو الاقتصادي. أوضح ستيفن روتش، رئيس مجلس إدارة مصرف «مورغان ستانلي - آسيا»، أن هناك 316 مليون شخص في الصين ينبغي أن ينتقلوا من الريف إلى المدن خلال الـ20 سنة المقبلة. هذه الموجة غير المسبوقة من التحضر والعمران توفر دعما قويا للاستثمار في البنية التحتية وبناء المساكن. ويبلغ عدد خريجي الجامعات الصينية سنويا أكثر من 1.5 مليون مهندس وعالم واحتلت الصين المركز الرابع عام 2009 من حيث عدد براءات الاختراع على مستوى العالم. وتتقدم الدولة نحو اقتصاد قائم على العلم. ويقول وانغ كينغ، المحلل الاقتصادي في «مورغان ستانلي»، إن الصين تعد دولة كبرى بها أكبر عدد سكان في العالم تفتقر إلى التنمية المتوازنة في مختلف المناطق وذات إجمالي ناتج محلي منخفض للفرد، وهو ما يعني أن الصين لا تزال لديها فرصة هائلة للنمو.

فضلا عن ذلك، وضعت الصين الخطة الخمسية الـ12 ورسمت الطريق إلى التنمية الاقتصادية وإعادة الهيكلة خلال الـ5 سنوات القادمة. تتمثل الخطوة الأولى في زيادة الطلب المحلي وتحويل النمو الاقتصادي إلى خليط متكامل من الاستهلاك والاستثمار والتصدير باعتبار ذلك المحرك الرئيسي. تسلط الخطوة الثانية الضوء على إعادة الهيكلة الإبداعية والاعتماد بشكل أكبر على التقدم العلمي والتكنولوجي والابتكار الإداري من أجل تحقيق النمو الاقتصادي. بحسب الخطة الخمسية، سوف تحد الصين من طاقة الاقتصاد بنسبة 16 في المائة وتزيد حصتها من مصادر الوقود غير الحفري لتصل إلى 11 في المائة في غضون 5 سنوات. وأشار ستيفن روتش إلى أن الخطة الخمسية الـ12 يمكن أن تصبح نقطة تحول استراتيجية من خلال التحول من نموذج المنتج الناجح الذي ظل سائدا خلال الـ3 عقود الماضية إلى مجتمع استهلاكي مزدهر. وأخيرا يتفاءل المجتمع الدولي بشأن الاقتصاد الصيني. ويرى المجتمع الاقتصادي الدولي أن الصين سوف تصبح أكبر اقتصاد في العالم عام 2050 أو 2030 أو ربما عام 2019. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم خلال الـ5 سنوات المقبلة طبقا لنظرية تعادل القوة الشرائية. (مقال «عندما تصبح الصين رقم واحد في العالم» الذي نشر في صحيفة «فاينانشيال تايمز» في العدد الصادر بتاريخ 9 يونيو/ حزيران 2011). لا يهم متى ستصبح الصين أكبر اقتصاد في العالم، لكن المهم هو الرسالة القوية الإيجابية التي يرسلها الاقتصاد الصيني.

بحسب صحيفة «سانداي وورلد» الألمانية، يتفاءل أكثر علماء الاقتصاد بأن الصين سوف تتغلب على الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها في الوقت الحالي. فكثيرا ما نجحت الصين في السيطرة على الاقتصاد المحموم دون تراجع النمو الاقتصادي. ويعتقد وانغ كينغ ومحللون آخرون في «مورغان ستانلي»، أن النمو الاقتصادي في الصين الذي يبلغ 10 في المائة سنويا لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة، وأنه سيصل إلى 8 في المائة قبل 2020.

ومع التقدم السريع الذي يشهده الاقتصاد الصيني، نلاحظ أنه ما زال البعض يشك على مستوى العالم في أنها ستسعى إلى الهيمنة على العالم متى ما أصبحت أقوى. لكن يعتقد الكثيرون أن هذه المخاوف لا أساس لها من الصحة. في ما يتعلق بالتاريخ، لا يخبرنا تراث أو ثقافة الصين بأنها تسعى نحو التوسع والهيمنة. فعلى مدى آلاف السنوات كانت سياسة وثقافة الصين ترتكز على التسامح والتناغم. ويوضح خطاب هنري كسينجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق، وجود جذور لتعاليم كونفوشيوس في عملية صناعة القرار الصينية والإصلاحات المعاصرة. ويعني ذلك أن الصين لا تسعى إلى حكم إمبراطوري، بل سترضى بموقع المملكة الإقليمية الوسيطة. («فيرغسون أمام كسينجر عن مستقبل الصين وما الذي يعنيه بالنسبة إلى السياسة الخارجية الأميركية»، 17 مايو 2011). أوضح فرانشيسكو سيسكي، رئيس تحرير طبعة آسيا لصحيفة «نيوز» الإيطالية، أن الصين لم تخض حربا توسعية لما يقرب من قرن من الزمان. في الواقع لم تخض الصين لما يزيد على قرن حروبا ضد أعداء يحاولون الاستيلاء على أراضيها («لماذا نخشى نهضة الصين؟» صحيفة «آسيا تايمز أونلاين» 7 مايو 2011).

أما في ما يتعلق بالتنمية الإقليمية والعالمية، تشير نهضة أو تراجع بعض القوى الكبرى في العالم إلى أن السعي نحو التوسع والهيمنة وسباق التسلح أمور غير مجدية، وأن التنمية السلمية هي الطريق الوحيد الصحيح. ويرى فرانشيسكو أن الدرس الذي تعلمته الصين خلال الـ3 عقود الماضية هو أنها تستطيع التقدم وتحقيق نهضة من خلال السلام لا الحرب، فالصين بحاجة إلى السلام لتحقيق تنمية. فمن دون السلام، ستكون أي تنمية معرضة للخطر وستكون مهددة بخسارة كل ما حققته من مكاسب بسهولة.

أما إذا نظرنا إلى الأمر من منظور واقعي، فلا تمتلك الصين القدرة على التوسع والهيمنة. وقد كتب الفريق المتقاعد غرايم لامب، في مقاله بصحيفة «تايمز» البريطانية، تضم الصين خُمس سكان العالم، بينما تبلغ مساحة الأرض الزراعية بها 10 في المائة فقط. على الدولة إذن أن تعمل جاهدة من أجل إطعام السكان وأن تعمل بجهد أكبر من أجل إطعام عدد السكان المرشح للزيادة. لكن تظل الأولوية القصوى للصين هي النمو الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة لا السعي المتهور نحو التفوق العسكري. («ينبغي علينا التحدث إلى الصين لا تصويرها في صورة الشيطان» - صحيفة «تايمز» 3 يونيو 2011).

يعد الرخاء والتنمية في الصين محركين هامين وحيويين للتنمية العالمية. على مدى السنوات أسهم الاقتصاد الصيني في تحقيق أكثر من 10 في المائة من النمو الاقتصادي وأكثر من 12 في المائة من نمو التجارة العالمية وتوفير ملايين من فرص العمل في دول قريبة. في نهاية عام 2010 أوضح مقال في مجلة «فاينانس آند ديفيلوبمينت» التي تصدر عن صندوق النقد الدولي كل 3 أشهر، أن صدمة قدرها واحد في المائة حدثت لنمو إجمالي الناتج المحلي الصيني أثرت بشكل تراكمي على النمو في بلدان أخرى بمقدار 0.2 في المائة بعد 3 سنوات و0.4 في المائة بعد 5 سنوات. ويعد السير على نهج التنمية السلمية خيارا استراتيجيا بالنسبة إلى كل من الحكومة الصينية والشعب الصيني. من شأن هذا الخيار أن يضطلع بدور هام للغاية في حماية أمن واستقرار العالم.

* سفير الصين لدى المملكة العربية السعودية