التوافق على إسقاط نظام القذافي وعوائقه

TT

إن إسقاط نظام معمر القذافي لم يعد مطلبا وطنيا أو إقليميا فقط، وإنما أضحى مطلبا دوليا كما أسلفنا. فهو مطلب وطني لأن أغلبية الشعب الليبي تعتبره نظاما مستبدا وفاسدا يعيق تطلعات المجتمع الليبي في الحرية والتنمية، وهذا لم يعد يعبر عنه بالتظاهر فقط، وإنما بالسلاح أيضا.

أما كونه مطلبا إقليميا، فإن ذلك قد لمسناه من قرارات الجامعة العربية. فلأول مرة في تاريخها، تتوافق على سحب الشرعية من نظام عربي عضو فيها، ومرد ذلك إلى جانب استعمال السلاح والعنف بشكل مفرط ضد أبناء شعبه، أن أغلب الأنظمة العربية قد عانت، ولفترات طويلة، من شغبه وحياكته المؤامرات ضد حكوماتها، ومغامراته المسلحة ضد جيرانه، وتمويله السخي لكل من أراد أن يحمل السلاح من أجل بث القلاقل والفوضى في المجتمعات العربية. وليس سرا أن الأنظمة الوليدة في كل من تونس ومصر قد أسرت إلى الدول الغريبة بأن بقاء هذا النظام سوف يخلق الفوضى في دولها مستغلا حالة السيولة الأمنية والسياسية فيها بقصد الإجهاز على هذه الأنظمة ومحاولة إرجاع أنظمة العهد القديم المتحالفة معه. وقد كشف مؤخرا عن خطط تبناها نظام القذافي للانقضاض على النظام الجديد في الدولة التونسية متحالفا مع بعض أفراد عائلة بن علي، وفلول الحزب الحاكم في عهده، وكان بصدد إنشاء حلف غير مقدس ضد جارته تونس، ولم يفسد عليه هذا المخطط إلا قيام الثورة في عقر داره.

أما على المستوى الدولي، فإن كل الدول الغربية ما كانت تنظر إليه كحليف موثوق به، لسجله الحافل بالإرهاب، ولاستعماله الثروة النفطية من دون حسيب ولا رقيب من أجل نزواته السياسية. فالولايات المتحدة تعلم أنه كان وراء تفجير طائرة بانام الأميركية، وفرنسا كانت تعرف تورطه في حادثة طائرة الـU.T.U التي تحطمت في صحراء النيجر، وبريطانيا متأكدة من تورطه في تسليح وتمويل الجيش الآيرلندي، وألمانيا تعرف ماذا حل بها عندما أمر بتفجير الملهى الليلي في برلين، وأنه على استعداد لفعل كل شيء ولارتكاب أي حماقة إذا أتيحت له أي فرصة سانحة. كما أن الغرب رأى في التغيرات التي باتت تكتسح المنطقة العربية أنه لا مكان لمثل نظام القذافي الذي قد يستغل الأوضاع القلقة في المنطقة من أجل خلق حالة من الفوضى تؤثر على الأمن القومي الأوروبي سلبا.

الآن وبعد أربعة أشهر من بداية الثورة الليبية وبعد فقدان نظام القذافي لشرعيته الدولية ودخول حلف الناتو على مسرح الأحداث، والاعتراف بمجلس الثوار محاورا شرعيا ووحيدا حتى من الدول التي أبدت تحفظاتها على القرارات الدولية ضد نظامه، هل ستأتي لحظة الصفر، أي هل سيقرر القذافي الرحيل؟ إنني أشك في ذلك. إن القذافي لن يرحل من ليبيا، وسيواصل النزال المسلح حتى آخر جندي مستعد لتلقي أوامره وتنفيذها. ذلك أن القذافي يعيش في عالم افتراضي صلته بالواقع قد انقطعت منذ أمد بعيد. فهو يعتقد أن الشعب الليبي يحبه، وأن من يحمل ضده السلاح هم عصابة محلية تدار من قوى إمبريالية واستعمارية ضد شخصه الذي يحمل راية المعاندة ضد هذه القوى. فهو قد أصبح بمرور الوقت عميدا للزعماء العرب، وملكا لملوك أفريقيا له تاجه وصولجانه الذهبي، وهو المفكر الأوحد الذي ابتدع نظرية لن ينعتق العالم ما لم يأخذ بها. إنه يعتبر ليبيا بلدا صغيرا لا يتسع لآماله وطموحاته، ويعتبر التضحية بليبيا في سبيل زعامته العالم أمرا هينا وغير ذي معنى، لأنه في نهاية المطاف سوف يخلد ليبيا من خلال زعامته العابرة للتاريخ. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن القذافي، وعلى مدى أربعة عقود من حكمه تعرض لكل المخاطر، من قصف جوي على مقر إقامته، إلى محاولات انقلابية متعددة ضد نظامه، وانتفاضات متكررة من شعبه ضد حكمه، ومحاولات اغتيال نجا منها بأعجوبة من أقرب الناس إليه.. كل هذا يجعله موقنا بأنه سيتخطى هذه المحنة. إنه يراها كأضغاث أحلام سوف يستفيق منها في لحظة وسيجد كل شيء على أحسن ما يرام. هذا ليس تفكيره وحده، وإنما هو هوس أكثر المحيطين به، ممن ينفذون أوامره بإخلاص وتفان.

لهذه الأسباب، وهي أسباب غير واقعية، وإنما أوهام عالم افتراضي ابتناه وأثثه ليقيم فيه، فغدا سجينا له، لن يقبل القذافي بالرحيل. فكيف يمكن أن يرحل إنسان من عالم افتراضي؟

يفيدنا علم النفس التحليلي أن أي إنسان يبتني لنفسه مثل هذه العوالم الافتراضية يفقد الصلة بالعالم الواقعي ويصبح سلوكه غير قابل للمحاكمة المنطقية والموضوعية. لذلك، فمن يحاول أن يقارب الحالة القذافية مع حالات أخرى في المنطقة كحالة زين العابدين بن علي أو حسني مبارك، أو حتى الحالة القادمة في سوريا واليمن يكون قد ارتكب خطأ في القياس، لأنه سوف يستند إلى مقدمات خاطئة لن يستخلص منها غير نتيجة خاطئة. أقول هذا رغم اعتقادي بأن إغراء السلطة المطلقة يخلق لصاحبها عالما من الوهم. الفارق هو أن القذافي لا يفيق البتة من هذا الإغراء ومن هذا الوهم.

في الأيام الأولى من الثورة الليبية لم يكن القذافي يتصور أن الأمور ستتداعى على هذا النحو. لكن حصل ما يلي:

1) تدخل الناتو إلى جانب الثوار.

2) اتساع رقعة التمرد.

3) عدم القدرة على تصدير النفط.

4) تجميد أمواله المودعة في الخارج.

5) الانشقاقات من كثير من المقربين إليه. فكانت له خطة كاملة تفضي إلى الانتصار الساحق والبقاء في سدة الحكم. وكانت تفاصيل هذه الخطة تقضي بأنه إذا اتسعت دائرة الثورة، فإنه سيستعمل أموال النفط ومداخيله في تجنيد ملايين الأفارقة من الدول المجاورة، وكذلك من أميركا اللاتينية لإبادة جزء كبير من الشعب الليبي وتمكين هؤلاء الأفارقة من الحلول محلهم والبقاء في ليبيا مع من تبقى من الشعب الليبي وإعطائهم حق المواطنة والعيش الرغيد من عائدات النفط، أي تغيير الشعب الخائن لقيادته وتعويضه بشعب بديل عنه. فهذا الحل هو الأسهل والأكثر عملية في مواجهة حالة واقعية مستعصية على فهم العقل الافتراضي. ولم يكن ذلك سرا. فقط صرح به في خطاباته إبان الثورة، عندما هدد بزحفه مع ملايين لاكتساح المناطق التي سيطر عليها من سماهم «الجرذان».

غير أن هذا السيناريو ما عاد ممكنا للأسباب الخمسة التي ذكرناها سابقا. فكل الأموال التي في حوزته لا تتجاوز ثمانية مليارات دولار استولى عليها من خزائن المصرف المركزي، وأغلبها سبائك ذهبية من الصعب تصريفها والاستفادة منها. إذن ما هو الحل؟

إن الحالة التي نحن بصددها حالة خاصة. فالشخص المصاب بمثل هذا المرض، أي فقدان الصلة بالواقع على هذا النحو، تنتابه حالة غضب وهيجان كلما حاول أحد الناس أن يذكره بالواقع أو حصل حدث ما يهدد عالمه الافتراضي. لذلك نرى أبناءه والمقربين منه يحاولون ما أمكن أن لا يطلعوه على الحقائق بتفاصيلها ويخفون عليه ما يزعجه. أبناؤه يفعلون ذلك بدافع الشفقة، والمقربون منه يفعلون ذلك بدافع الخوف، ويبقى هو حبيس عالم يملأه الأمل ينسج فيه رغائبه ويعيش فيه أحلامه، بينما العالم يحترق من حوله ويتشظى.

إن شخصا في هذه الحالة إن أصاب التحليل لن يترك البلد، وسيبقى فيه حتى يقتل بفعل غارة أو اغتيال من طرف أحد المقربين منه أو يقبض عليه في أحد المخابئ، وحتى في لحظاته الأخيرة وحبل المشنقة يلتف على عنقه، لن يعترف بالواقع، وسيظل يعتبر ذلك أضغاث أحلام، لأن الملايين التي يحلم بها من المصلين وراءه في أفريقيا، ومن شعوب الممالك الأفريقية التي بايعته ملكا لملوكها، ومن الجماهير الغفيرة في أفريقيا وآسيا وأميركيا اللاتينية التي أبلغه معاونوه بأنها تؤمن بنظريته العالمية ومن القبائل العربية في بلاد المشرق الذين بايعوه زعيما وقائدا وأمينا على القومية العربية لن يتأخروا في نصرته وهزيمة المعارضين وحلف الأطلسي وحمله على الأكتاف من منصة الإعدام إلى سدة الحكم.

إذن، فمن يراهن على هروب القذافي أو الوصول معه إلى صفقة تخرجه من البلد وتمكنه من إقامة آمنة في الخارج، من يراهن على هذا واهم، ولن يحصد من هذا الوهم غير إضاعة الوقت التي ستكون في المحصلة النهائية لكل الأطراف المتحالفة. وأكبر خاسر سوف يكون حلف الناتو والدول الغربية التي لم تفهم حالة القذافي العقلية والنفسية وتراهن على هذا الحل، وتضع كوابح خطيرة لبقية الحلول الناجعة.

* كاتب ليبي