(يزغرني) بعين.. و(يزغر) الطبيب بعين

TT

ذهبت لأزور شيخا مريضا وطاعنا في السن بمنزله، وتربطني به قرابة بعيدة، وبعد (اللتي واللتيا) أدخلوني عليه، واستقبلني بوجه مكفهر كعادته التي جبل عليها في استقبال من هم على شاكلتي، وهو رجل (شكّاك) بطبعه، ولديه للأسف فكرة سيئة ومغلوطة عن سمعتي.

قبلت رأسه مجاملة واحتراما، وانتحيت جانبا أسأله عن حاله، فزغرني بعين واحدة من عينيه دون أن يجيبني، ثم ران علينا صمت ثقيل لعدة دقائق كنت أثناءها أطقطق بأصابعي من شدة الارتباك والحرج، في الوقت الذي كان هو فيه لا يزال مركزا علي بعين واحدة يزغرني بطريقة ممتلئة بالشكوك؛ أين منها شكوك (ديكارت)؟

والحمد لله أن الباب أخيرا فتح على مصراعيه، وإذا بالطبيب الذي كان يمضغ (العلكة) يدخل علينا (متقصوعا) قائلا قبل أن يجلس: «(بونجور) كيفك عمو اليوم؟!».

فزغره الشيخ بعينه الثانية دون أن يتكلم، بينما كانت عينه الأولى ما زالت مركزة عليّ.

جلس الطبيب بجانبه، وأخرج من حقيبته ما يشبه المطرقة وخبط بها برفق ركبة الشيخ التي (نطت) من جرائها قدمه وكادت أن تصل وتخطف وجه الطبيب الذي تراجع إلى الوراء سريعا متفاديا قدمه، ثم أخذ ركبته الثانية وخبطها أيضا بالمطرقة لكنها لم تتحرك، وكرر ذلك عدة مرات ولكن (لا حياة لمن تخبط)، عندها قال له الطبيب: «لا تقلق.. بسيطة عمو، فهذا شيء طبيعي بسبب تقدم العمر».

فقال له الشيخ: «(عزّ الله إن ما عندك سالفة) - أي إنك لا تفهم - إذا كان السبب هو ما ذكرت، فكان يجب أن تكون قدمي الأولى مثل قدمي الثانية لا تتحرك، لأنهما في العمر نفسه، ولكن أنتم (يا هالتخاتره) ما عندكم غير (الخرطي)». فاستغللتها فرصة مبتسما من منطقه وأثنيت عليه مجاملا وأنا أقول له: «الحقيقة كلامك صح» - ويا ليتني لم أتدخل - لأنه ما إن سمع كلامي حتى قال للطبيب وهو يشير لي: «لو سمحت خذ ضغط هذا المهبول». ويبدو أن الطبيب انزعج أصلا من تدخلي بالكلام، فما صدق على الله أن الشيخ طلب منه ذلك، حتى توجه لي قائلا: «شمّر عن كمك (ولاك)»، وأخرج جهاز الضغط ولفه بكل (جفاصة) حول عضدي وأخذ ينفخه لمدة دقيقة، وإذا به يقول لي: «بصراحة ماني شايف شيء، فليس هناك أي علامة. أنت من المفروض أن تكون ميتا من زمان.. صحيح أنت كيف عايش؟!».

قذف الدكتور كلمته الأخيرة تلك بوجهي ثم كتب بعض التعليمات في (روشتة) وتركها على المنضدة، ثم أخذ حقيبته مودعا الشيخ دون أن يلتفت لي.

ولأول مرة، سمعت الشيخ يضحك، بل ويكرر قائلا: «تستاهل».

ثم أردف قائلا باللهجة الدارجة: «وشلك تدخل عصك بشيء ما يخصك؟!».

لم أرد عليه بعد هذا (الدش) البارد الذي انسكب على رأسي، واستأذنت منه قائلا له وأنا أصر على أسناني: «الله يعطيك العافية».

والعافية التي أقصدها بسرّي إنما هي العافية المغربية.

[email protected]