الخطر على الأمن الدولي؟!

TT

عشت الأسبوع الماضي كله ما بين برلين وبروكسل، الأولى عاصمة ألمانيا المتحدة الممتلئة بالعنفوان حتى في قلب أزمة اقتصادية تلف العالم الغربي كله، والثانية هي عاصمة أوروبا الساعية للاتحاد وتصارع مع نتائج الأزمة حتى لا تكون سببا في تفكك ما سبق من وحدة في العملة والاقتصاد. المهم أن المؤتمرات التي حضرتها كانت زاخرة بالخبراء والسفراء وجماعة البحث وأهل القرار. ولكن ما أثارني بقوة خلال هذه الاجتماعات أن الزملاء الغربيين وضعوا قائمة طويلة للأعمال كلها تقول إن العالم الثالث، وخاصة الجزء العربي والإسلامي، هم سبب متاعب عالم اليوم. فإذا كانت الأزمة نووية فإن السبب والمعضلة والمشكلة هي إيران؛ أما إذا كان عدم الاستقرار فهو لا بد آت من الصراع العربي - الإسرائيلي وحالة باكستان والفساد في أفغانستان، وعندما وصلنا إلى الأزمات الاقتصادية كان ارتفاع أسعار النفط سببا مباشرا لحالة العالم التعيسة، وعلى أي الأحوال فإن الفقر والفاقة يأتيان من دول الجنوب التي لا تعمل ولا تعرف كيف تباشر أمورها وتلقي بهمها طلبا للمنح والمعونات، وبعد ذلك لا يجد الغرب شيئا إلا الشكوى واللوم وسوء الكلمات. ورغم وجود حماس لحالة «الربيع العربي» فإن التشاؤم دائما من حال أن الربيع في بلاد العرب تكثر فيه رياح الخماسين، وتبعد ثقافة «الربيع» سواء كان هذا زهرة أو ثورة.

كان ذلك وحده كافيا لإصابة المشارك العربي بالغم، اللهم إلا إذا كان سفيرا بارعا في البحث داخل نصوص القانون الدولي والتشريعات العالمية عما يدافع به عن منطقه غير عابئ إلا بأن المسألة كلها في النهاية سياسية من أولها إلى آخرها، فلا بد أنه على طرف ما أن يتحمل أعباء تعاسة العالم الذي رغم كل ما جاءه من مخترعات، وظهر عليه من اكتشافات، وجاءه من عولمة واتصال، لا يبدو لديه لمحات سعادة أو رضا.

بالنسبة لي وجدت المسألة مختلفة تماما، فالأخطار العظيمة كلها تأتي من الغرب أو العالم الصناعي المتقدم عامة وهي لا تجري على البشر فقط في دنيانا، بل إنها تخص الكرة الأرضية كلها. أولها لاحظ ما فعله العالم الصناعي المتقدم الذي نعيش فيه، فهو الذي استهلك الطاقة حتى لم يجد شعوب العالم الثالث سوى حرق الغابات لكي يجدوا مصدرا يعيشون عليه؛ وكانت نتيجة هذا وذاك أن جرى الاحتباس الحراري الذي جعل القطب الشمالي آخذا في الذوبان. لقد كانت ملايين العربات التي تجري في العالم الصناعي في الشمال هي التي رفعت من حرارة الأرض وهي التي أخلت بالتوازن البيئي والكوني وليس فقراء ما زالوا يعيشون وفقا لما أتاحته الطبيعة من وسائل وأدوات. ومن يعرف هل المشكلة الكبرى تقع فقط في القطب الشمالي أم أن ما شاهدناه من زلازل وتسوناميات هي نتاج ارتباك الطبيعة من هذا الكم الهائل من الحركة البشرية التي ينتجها قرابة سبعة بلايين من البشر.

الخطر الثاني نتج جزئيا عن الأول حيث تم وضع العالم كله على أعتاب كوارث نووية لا دخل للفقير فيها ولا ذنب، ولكنه سوف يدفع ثمنها لا مراء فيه حينما تحل ساعة القيامة التي لا تأتي من السماء وإنما يفرضها أهل الأرض في الشمال. كان الغرب هو الذي فض عذرية النواة، وفجر منها طاقة ولدت قنابل نووية دمرت هيروشيما وناغازاكي وأنهت الحرب العالمية الثانية، ولكنها فتحت الأبواب لما يسمى «الاستخدام السلمي» للطاقة النووية. وكانت النتيجة أن انتشرت المفاعلات النووية في العالم الغربي كله، ولكن هذه المفاعلات ذاتها صارت قنابل غير سلمية تنتظر كارثة من نوع أو آخر. ثلاث كوارث حدثت بالفعل في ثرى مايلز أيلند الأميركية، وتشيرنوبل «السوفياتية» وفوكوشيما اليابانية. الكوارث مجرد إشارات نتج عنها قرار ياباني بتصفية المفاعلات خلال فترة قصيرة، وتبعتها ألمانيا وإيطاليا، وبقية العالم كله يفكر ماذا سوف يفعل ما عدا الدول العربية التي تسعى 14 دولة منها لشراء مفاعلات نووية دون نية لمراجعة أو مساءلة. تماما كما توقف الغربيون عن تدخين السجائر بينما زاد استهلاكها لدينا؛ هم يبدأون الكارثة وعندما يتخلصون منها يجدون فينا مستهلكا جاهزا. المهم أن المفاعلات النووية الغربية سوف تظل خطرا على العالم خلال العقود المقبلة، وخطرا على العالم حينما يتم تصديرها لمن لا يعرف أو يقدر. وفي كل الأحوال سوف يعيش العالم على شفا مجاعة في الطاقة قد يراها البعض فرصة، ولكنها قد تكون زمن تفاقم الأخطار.

الغرب يعيش عالمه على طريقته وهو يبشر بعالم جديد؛ فإذا ما انفجرت الفقاعة كلها عن أزمة اقتصادية طاحنة نجد الفقراء في العالم يدفعون ثمنها. ما جرى خلال السنوات الماضية كان مذهلا، وما حدث نتيجة الفقاعة العقارية، والفقاعات البنكية، والملاعبات في الأسواق المالية تشيب له الرؤوس لأن أحدا في العالم النامي لم تتم استشارته فيما جرى وفيما سوف يجري له. وبالنسبة لبلدان كثيرة كان الأمر مجرد أزمة اقتصادية تأتي في شكل دورات من وقت لآخر، وحينما جرت هذه المرة في سبتمبر (أيلول) 2008 قيل إنها سوف تستقر في عام 2009، ثم يخرج العالم منها في عام 2010، وبعد ذلك تعود الأيام الطيبة إلى سيرتها الأولى عام 2011. وها نحن - العالم كله - قد أصبح في منتصف العام الموعود، ولكن لا انتعاش هناك، ولا جاءت الأيام الطيبة الأولى، وإنما حل محلها السخط والثورة.

المدهش أن أحدا لم يعترف أبدا أن أبرز الأخطار التي تعرفها البشرية وتهدد الأمن الدولي كله لا تزال كامنة فيما كان معروفا من قبل باسم «الحرب الباردة». قيل إن الحرب انتهت، وإن سباق التسلح انتهى معها، وبشكل أو بآخر، باتت روسيا في محافل مشتركة مع الغرب، يعملان معا على نزع السلاح النووي. ولكن الحقيقة المرة، حتى بعد توقيع اتفاقيات «خفض الأسلحة النووية - ستارت» أن كلا من روسيا والولايات المتحدة لا يمتلكان فقط أكثر من 90 في المائة من السلاح النووى في العالم، بل إن هذا الكم رغم التخفيض هو أكثر قدرة وفاعلية وتدميرا من أي وقت مضى. الخدعة الكبرى العالمية هي أن «القوتين الأعظم» يقومان بأكبر عملية نصب عالمية وهي أنهما يخفضان الأسلحة النووية بينما هم يرفعون قدرتها، وما ينقص منهم كما يزيد لديهم نوعا وكيفا وسرعة. وهكذا فإن القدرة على تدمير العالم زادت عدة مرات بينما يجري الاحتفال بقرب التخلص من الأسلحة النووية.

هذه هي الأخطار الحقيقية التي تلف العالم وتضعه على رأس ثور ينتظر ساعة الكارثة القادمة عندما يلف الكرة الأرضية من ناحية إلى أخرى.