الاستعمار الداخلي ودولة المدينة

TT

من أولى علامات فشل الدول، اختصار الوطن في مدينة، وهذا هو حالنا، فقد تم اختصار مصر في القاهرة، ونسي الناس أن الوطن يمتد من أسوان إلى السلوم ومن حلايب إلى رفح، ومع ذلك قرر القائمون على الحكم والسياسة والثقافة والإعلام طواعية أن مصر هي القاهرة، قرروا أن يقزموا ويقسموا بلدهم بأنفسهم، لتصبح مصر هي دولة مدينة القاهرة، بعشوائياتها وزبالتها، وزحامها، على الرغم من أن هناك بلدا واسعا ونظيفا، خارج القاهرة، اسمه مصر. كنت دائما أصدم عندما أقرأ عنوانا لقسم في صحيفتي «الأهرام» و«الأخبار» تحت عنوان «ماذا يجري خارج القاهرة؟»، ربع صفحة تقريبا، مخصص لبقية الوطن المسمى، لا أدري بجهل أو بسوء نية أو تعال، «خارج القاهرة»، عالم بلا اسم ولا هوية، فقط اسمه «ما هو خارج القاهرة»، إصرار على الإلغاء والمحو. هذا يكتب في صحف ليست مستقلة أو خاصة، بل هي صحف ينفق عليها الشعب من حر ماله، صحف توصف بـ«القومية»، ترتكب هذه الإهانة ضد بقية الوطن. هذا في ما يخص الصحافة، أما الثقافة، فما عليك إلا أن تقرأ عنوانا، مثل «مؤتمر أدباء الأقاليم»، لكي تعرف معنى الغطرسة والجهل معا. هكذا الأقاليم، من دون اسم للأقاليم! مع أن مدن الأقاليم أقدم تاريخا من القاهرة، ولكنها في وعي وزراء الثقافة هي مجرد وجوه دونما ملامح، ودونما أسماء؛ العالم كله في القاهرة والشمس تشرق من القاهرة. الأقاليم و«خارج القاهرة»، هكذا أصبحت أسماؤنا من قبل نخبة تعتبر نفسها رائدة في الثقافة والإعلام. مع أن المثقفين والكتاب كما تعلمون في عهود الديكتاتورية ليسوا بالطبع كذلك، بل هم موظفون يضعهم النظام الحاكم في هذا الموضع، يمنحهم عمودا في صحيفة أو برنامجا في تلفزيون، يفرضون على الناس فرضا، إذ لا معايير للاختيار في القاهرة، سوى الشللية أو القرابة أو البلطجة، أو كلها مجتمعة. أما في السياسة فحدث ولا حرج. جلست ذات مرة مع نائب الرئيس السابق اللواء عمر سليمان وحدثني عن أن مصر مجتمع مائي لا يحكم إلا من الصرة، من القاهرة، هي مجتمع مركزي حسب رأيه، وهو الرجل القادم من الأطراف من نجوع محافظة قنا، أي بلدياتنا، كما يحب البعض أن يسموننا.

كنت كلما أذهب لزيارة أهلي في قريتنا في أقصى الصعيد المصري، أحس بأنني في جنوب العراق، نوع من الاحتلال يسيطر على المكان، ليس احتلالا أميركيا كما هو الحال في جنوب العراق، ولكنه احتلال داخلي، محافظ الإقليم كان إما من الإسكندرية أو من القاهرة، أناس لا يعرفون المكان ولا يعرفون الصعيد ولا عاداته ولا طبيعته ولا تقاليده. هم جاؤوا كما كانت تأتي التجريدة أيام الإنجليز، جاؤوا للبطش بالبشر. يبطشون بالبشر كما يبطشون بالبهائم، رأيت ضباط الشرطة وهم يمارسون أقذع الإهانات للمواطنين، وكان الضابط يأتي من بحري ليعمل في الصعيد، وهي بالنسبة له أشبه برحلة الصعايدة للخليج، كان الضابط يأتي غلبانا ويسافر كمليونير، من فرض الإتاوات والمتاجرة في السلاح أو التستر على تجارة السلاح، أو «تظبيط» المنطقة لعضو مجلس شعب عن الحزب الوطني المنحل. الصعيد كان الكويت بالنسبة لضباط الشرطة، يأتونه خماصا ويعودون بطانا، أي يأتونه فقراء ويعودون وهم من أصحاب الملايين.

كان الصعيد يبدو لي وكأنه تحت استعمار داخلي، هذا قبل الثورة، ولما ذهبت إلى الصعيد بعد الثورة، واستمعت إلى خطاب من تسلموا السلطة بعد الثورة عن الصعيد، أدركت أن الاستعمار الداخلي مستمر وربما أكثر وضوحا، فقط تغيرت الوجوه، فالجماعة في الحكم لا يرون سوى القاهرة. دولتهم ليست مصر، بل دولتهم دولة المدينة الفاشلة المترهلة، التي تبدو ككرش بقرة مبقور.

اختصار الوطن في القاهرة نذير لثورة أخرى، ولكن هذه الثورة لن تكون ثورة سلمية كثورة 25 يناير 2011، ستكون ثورة جهوية تهدد بانسلاخ أجزاء من الوطن عن تلك المدينة النرجسية المسماة القاهرة، خصوصا أن القاهرة اليوم ليست إضافة لقنا أو لسوهاج أو أسيوط، ولن أقول الإقليم، لأن هذه مدن بها بشر ولها تاريخ أعرق من تاريخ القاهرة، فما هي القاهرة مقارنة بطيبة، أو بنقادة الأولى والثانية، وهي مسقط رأسي، القاهرة هي عبء على أسيوط وعلى أسوان، وليست إضافة. ولهذا سيكون الانسلاخ أو التفتت لصالح الكيانات الصغيرة، التي ستتمتع بالسعادة وهي خارج قبضة القاهرة، وثقافة القاهرة، وصحافة القاهرة، ولغة القاهرة.

بالطبع، أنتج نظام مبارك من فتوات القلم، أي من يحمل مدية لا قلما، من سيرد على هذا الطرح، منصبا نفسه وكيلا حصريا للوطن والوطنية، ومفسرا المقال بأنه دعوة لتمزيق الوطن. الأوطان الممزقة لا تحتاج إلى دعوات كي تمزق. السياسات هي التي تمزق الأوطان، ومن يختصرون الوطن في القاهرة هم المسؤولون عن بداية تمزيق الوطن. لقد خرج الجني من القمقم، وأهل الأقاليم - كما يحلو لكم أن تسموهم - لن يسكتوا، ولكم في ما حدث في قنا، عبرة وعظة، فهذه حادثة لن تكون الأخيرة. فعندما تقطع السكك الحديدية في قنا، وينفجر أنبوب الغاز في سيناء، فأنت أمام وطن كما أردتموه لأنفسكم، وطن مختزل في القاهرة، أما بقية الوطن فتقطع أوصاله وطرقاته أو تشتعل فيه النيران، فهذا لا يهم كثيرا عندكم، عند من يتصدرون المشهد الإعلامي أو الثقافي أو السياسي، يموت الوطن وتحيا القاهرة، تلك المدينة العشوائية المنتهية. احذروا الثورة، على الاستعمار الداخلي، فهي ثورة الجياع والمظلومين بحق، ولكن مضروبة في عشرة هذه المرة.