عاصفة الثورة والانحناءة الليبرالية!

TT

هل حان الوقت لقراءة تأثيرات الثورات العربية على المشهد السياسي والفكري بشكل عام، والمحلي منه بوجه خاص؟ وإلى أي مدى يمكن القول إن عدوى الاحتجاجات التي طالت بلدانا عربية فأسقطت أنظمة وأبقت أخرى برسم الممانعة العسكرية والسياسية لم تخلف آثارا وعلامات ثقافية بارزة على البلدان التي لم تطلها رياح التغيير؟!

ربما كان من المبكر الإجابة بدقة على سؤال كبير كهذا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن التغييرات الثقافية المتصلة بالخطابات السياسية هي الأبطأ من حيث التحول كمّا وكيفا، وإن كان يمكن قراءتها في شكل نماذج فردية عبر كتابات شهدت ارتباكات حادة جدا في الموقف من الثورات من التأييد والحماسة المطلقة إلى التحفظ والنقد، وصولا إلى التبشير بضرورة الانحناء لرياح تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها الجماعة الأم، الإخوان، على طريقة «هذا زمانك إني قد مضى زمني»، وليس من منطلق أن تلك الجماعات أسست للثورة ابتداء وزامنتها بخطابات سياسية واعية وبرامج بديلة وموقف أكثر تسامحا حين انتقلت من صف المعارضة إلى منصة التتويج.

الانحناءات «الليبرالية»، هو وصف اعتباري يشمل قائمة طويلة من الكتاب ذوي النزعات القومية واليسارية والمنتمين إلى الحداثة الأدبية بمفهومها العام، وكل هؤلاء صنفوا ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) بالليبراليين لأسباب تتعلق بطبيعة خصومتهم للتيار الإسلامي الذي لم يكفّ منذ تلك المرحلة عن وصف كل من اختلف معه في مسائل اجتماعية بالليبرالية، كما أن وصف هذه الفئات بالليبرالية بمفهومها التحرري المناهض للأصولية تم الارتكاز عليه في الإعلام الغربي، مما ساهم في خلق موجة من «الفاشن» الفكري في الانتساب إلى الليبرالية والتباهي بها والالتفاف على آيديولوجيات أخرى فقدت وهجها وفرت من الزحف منذ انهيار المعسكر الشرقي وذوبان التيار القومي في النسيج العام المتعاطف مع الإسلام السياسي كمقابل للسلطة.

هذا الموقف المرتبك تجاه الربيع العربي يذكرنا بموقف كتاب وفلاسفة غربيين وعرب إبان الثورة الإيرانية حين قلبت بصعودها تلك الفترة على أنقاض نظام الشاه موازين الكثير من الأسماء البارزة، لعل من أهمها أحد أشهر فلاسفة القرن العشرين المفكر الفرنسي ميشيل فوكو (1926 - 1984) الذي اتسم موقفه آنذاك بوضعية مشابهة وإن كانت بمستوى أكثر عمقا لعدد من مواقف الكتاب والمثقفين العرب، كان موقف فوكو في تناوله للثورة الإيرانية في العام مثيرا للدهشة، حيث ذهب لتغطية الحدث عام 1978، وهو على انتمائه المتطرف لليسار، التقى بالنخبة الثورية الإيرانية وعلى رأسهم الخميني في العاصمة الفرنسية باريس، وأطلق وصف «الروحانية السياسية» لتفسير الثورة الإيرانية، ضاربا عرض الحائط تحذيرات المعارضة الليبرالية التي كانت ترى بذور التطرف والأصولية في الثورة الخمينية، الأمر الذي جوبه بنقد لاذع من عدد من المختصين بالشأن الإسلامي من المستشرقين الفرنسيين كمكسيم رودنسون الذي نبه إلى ضرورة التيقظ للبراغماتية الفجة التي يمكن لأنصار الأصولية الدينية أن يقوم بتأسيسها متى ما دخلوا مضمار السياسة، وهذا ما شهدنا طرفا منه في حالة الانقسام والتراشق بين أجنحة الإخوان في مصر.

صحيح أن الربيع العربي الذي يبشر به المنحنون من دعاة الليبرالية المتصالحة اليوم قام على أنقاض دول منهارة وفاشلة، وهو الأمر الذي يختلف نسبيا عن الثورة الإيرانية شكلا ومضمونا، إلا أن رد الفعل تجاه مفهوم الثورة وبطريقة حالمة ومثالية لا ترى في المشهد إلا زوال الطاغية يبعث على الكثير من القلق، لا سيما أن الكثير منهم بات يتحسس من نقد تجربة الثورة الحالية لأسباب كثيرة، يأتي على رأسها قراءتهم الاستباقية لتحرك الولايات المتحدة التفاوضي والإيجابي في الحوار مع جماعات الإسلام السياسي وتحديدا الإخوان، وهي علاقة سبقت الثورات بفترة طويلة لكنها خرجت إلى العلن لسبب واضح، وهو رتق الفراغ السياسي الذي خلفه السقوط المدوي للأنظمة في ظل عدم وجود تكتلات ومطالب واضحة لمن أطلق عليهم شباب التغيير الذين لا يملكون خبرة تؤهلهم كبديل سياسي عدا أنهم لا يشكلون كتلة محددة الملامح يمكن التفاوض معها.

من جهة ثانية فإن أحد أكثر مبررات تلك الانحناءة لعاصفة التغيير القادم على يد الإسلام السياسي هو أن الإخوان في مصر وتجلياتهم الأخرى في تونس واليمن وليبيا لم يأخذوا فرصتهم التي يستحقونها في التربع على عرش السلطة، ويقدم هذا المبرر على أنه أحد لوازم الإيمان الليبرالي كما يقال بالتعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة، يرافق ذلك أن في ذلك قطع الطريق على جماعات التطرف كـ«القاعدة» وأخواتها في إحداث اختلال في توازن القوى متى ما أعطيت الفرصة الكاملة للإسلام المعتدل كما يتم وصفه.

والحق أن مبررا كهذا يمكن أن ينطوي على قدر كبير من الصحة لولا أن ثمة تجارب تنتمي إلى الإسلام السياسي بشكل أو بآخر أخذت فرصتها ولو غير الكاملة في العمل السياسي ولم تكن النتائج بالمرضية إذا ما حاكمناها بمعايير سياسية بحتة، كالتعددية والتداول للسلطة وفتح الحريات السياسية، فغني عن القول أن نموذج السودان أدى إلى إشكالات كبيرة كان من أبرزها انفصال الجنوب، الحدث الذي لا يقل خطوة وأهمية عن الثورات العربية، هذا إذا ما تجاوزنا مسألة أداء حركة حماس في قطاع غزة، ليس تجاه خصومهم السياسيين من المنظمات الثورية ذات الطابع العلماني، ولكن تجاه الفصائل والتيارات الأخرى وعلى رأسها الحركات السلفية داخل القطاع.

الاشتغال بالترقيع للممارسات غير التعددية من قبل القوى السياسية الصاعدة في مرحلة ما بعد الثورة على قاعدة أن «الثورة تجبّ ما قبلها» أو أن عدو عدوي صديقي لن يؤدي بالحالة السياسية إلا إلى مزيد من التعقيد وهيمنة الرأي الواحد، وبالتالي إعادة صناعة الأوثان على حد تعبير الفيلسوف الروماني سيوران، وهذا أسوأ ما يمكن فعله في زمن ما بعد الثورات الذي يتطلب ثورة موازية في المفاهيم تؤسس لخلق خطاب ثقافي يكرس لمفاهيم التعددية والحوار، أو ما يمكن تسميته بقيم ما بعد الثورة، فمجرد التفكير في «من» وليس «كيف» يمكن أن يملأ الفراغ السياسي، سيعيدنا إلى حالة الاستقطاب الحاد التي عاشتها المنطقة في ثورات مضت.

[email protected]