الصعود الاقتصادي التركي.. هل يستمر؟

TT

أظهرت الأرقام الرسمية التي وزعت مؤخرا أن الاقتصاد التركي حقق في الربع الأول من العام الحالي نموا كبيرا، بنسبة 11 في المائة، وهو الرقم الذي يعني، حسب الكثير من الخبراء والمتابعين، تفوقا واضحا على الصعود الاقتصادي الصيني الذي يضرب المثل به منذ سنوات، حيث عجزت الكثير من الدول الصناعية الكبرى على منافسته والتصدي له وإيقافه عند حده.

الأرقام التي أعلنت في أنقرة تقول أيضا إن تركيا بوصولها إلى هذه النتيجة، تكون قد أثبتت قدرتها على مواصلة سياسات المنازلة الاقتصادية والتجارية، على المستوى الوطني والإقليمي والدولي، في وقت يعاني فيه الاقتصاد العالمي من ركود وجمود وتراجع ملحوظ.

يكفي العودة عشر سنوات فقط إلى الخلف لنتذكر حجم الأزمات الاقتصادية والمالية الكبيرة، التي كانت تعاني منها تركيا، والتي كانت تهدد ليس فقط اقتصادها، بل عملتها التي فقدت الكثير من قيمتها واعتبارها، وكذلك علاقاتها التجارية والمالية مع الدول والمؤسسات الكبرى ومراكز رصد الاقتصاد المعروفة، التي كانت تضع تركيا دائما ضمن دائرة المناطق الحمراء المهددة، والواجب التعامل بحذر ودقة معها. حجم الديون الداخلية والخارجية وعلاقاتها الدائمة التأزم مع البنك الدولي، وما قيل وقتها حول فرض الخبير الاقتصادي التركي الدولي، كمال درويش، على حكومة اليساري بولنت أجاويد الائتلافية، ليكون الفرصة الأخيرة في إبعاد تركيا عن حافة الهاوية. بعض الصور والمشاهد التي تبرز إلى الواجهة خلال تذكر واستعراض تلك الحقبة الصعبة من التاريخ الاقتصادي التركي الحديث.

اليوم تحديدا وخلال مناقشة أسباب إصرار الناخب التركي على منح حكومة رجب طيب أردوغان فرصة ثالثة، لم تقدم حتى الآن لأي حزب سياسي تركي آخر، نكتشف أن المواطن التركي بقراره هذا خلال بحثه عن الاستقرار السياسي، كان يبحث أولا عن الاستقرار الاقتصادي والمالي الذي وفرته له حكومة العدالة والتنمية في السنوات الأخيرة. الرقم الموجود بين أيدينا يقول إن رقم الناتج المحلي الصافي خلال الربع الأول من العام الحالي هو 285 مليار ليرة تركية، أي ضعف ما كان عليه هذا الرقم قبل سنوات، وخلال عام كامل وقتها.

قبل سنوات كنا نكتب منتقدين سياسات العدالة والتنمية باتجاه الخصخصة «التي باعت الأخضر واليابس، ووضعته بتصرف الشركات والمؤسسات ورؤوس الأموال الأجنبية»، اليوم فقط تتضح أهمية وضرورات وفوائد قرارات حاسمة وخطيرة من هذا النوع، كان لا بد من المغامرة والجرأة في اتخاذها.

صانعو السياسات الاقتصادية في حكومة العدالة يقولون إنهم كانوا وجها لوجه أمام مقارعة التحدي، وقبول الوصفة الصعبة والطويلة الأمد، عبر تجرع العلاج المر لسنوات بصبر وتحمل، لكنهم كانوا يعرفون أن الجدية وعدم التراجع سيوصلانهم إلى ما يريدون. حكومة أردوغان، وعلى الرغم من كل ما يقال عن خصائص الاقتصاد التركي الداخلي، التي تميزه عن الكثير من دول المنطقة بغناه وثرواته الطبيعية، نجحت وبتفوق في تطبيق خططها البعيدة المدى بعقلانية وجدية وواقعية، معتمدة بالدرجة الأساسية على تقوية الإنتاج والصادرات، وجذب رؤوس الأموال الخارجية، وفتح الأبواب واسعة أمامها لتستثمر في تركيا. وعلى الرغم من عدم قدرتها حتى الساعة على تقليص الفوارق بين الصادرات والواردات، فإنها نجحت في زيادة حجم صادراتها، مضاعفة الرقم خلال فترة زمنية قصيرة. حكومة العدالة كان هاجسها الأول جدولة ديونها الخارجية ودفع المستحقات في أوقاتها، وهذا ما حققته أولا من خلال تسديد القسم الكبير من هذه الديون، في حين كانت خطتها الثانية تقوم على رسم سياسة إعادة التموضع الاقتصادي الوطني، وهي على ما يبدو تسير في الاتجاه الصحيح أيضا.

ومع ذلك يبقى السؤال قائما: هل ستنجح حكومة أردوغان الجديدة، وهي التي بنت استراتيجياتها على استقرار سياسي وأمني داخلي، وشبكة واسعة من العلاقات الاقتصادية والتجارية مع دول الجوار، بمثل هذه البساطة في تجاوز أزمات الداخل التي تفجرت أخيرا، والخروج من ارتدادات ومضاعفات أزمات الربيع العربي السلبية بأقل الخسائر والأضرار؟ الجواب عن الشق الأول ستحمله لنا خلال أيام الحكومة الجديدة المرتقبة، وجهود الرئيس التركي عبد الله غول لإخراج البلاد من مأزق اليمين الدستورية، وتعطيل أعمال البرلمان التركي المنتخب قبل 3 أسابيع، أما الردود على الشق الآخر من السؤال فهي عند رأس الدبلوماسية التركية وصانع قراراتها، أحمد داود أوغلو، نفسه منذ البداية، عندما قال إن ما يحل بأية عاصمة عربية وإسلامية نعاني نحن أيضا من نتائجه السلبية وانعكاساته. هو يقول إنه يعرف أن جمع الزهور لا بد أن يصحبه المرور فوق حبل الشوك وتعريض الأصابع للمجازفة.