الماضي والحاضر

TT

مواصلة لموضوع النسيان والذاكرة، لا بد لي أن أستشهد بما قاله ونستون تشرشل بعد نشر كتابه الموسوعي عن تاريخ بريطانيا. قال: إن الأمة التي تنسى ماضيها تضيع مستقبلها. لكن له قولا آخر أجدر بالملاحظة والاستذكار في هذا الصدد. قال: إن الأمة التي تنسى ماضيها ستكرر أخطاء ماضيها. ألم أقل إن هذا هو القول الذي علينا حفظه واستيعابه؟

لفت نظري، ككاتب، إقبال القراء وتعلقهم بما نسميه «أيام زمان». يسألونني أن أُكثر من الكتابة عن تلك الأيام. وهو بالفعل ما أسهبت فيه بناء على رغبتهم. ونشرت عدة مجموعات في هذا الصدد كأيام عراقية وأيام الخير وأيام فاتت وحكايات حب وغرام. لماذا هذا التعطش للماضي؟ هل لأن حاضرنا لا يبعث على غير القرف والاستياء؟ فنحن في العراق تدهورنا من عهد لعهد، من الملكية إلى الأنظمة الثورية. ومن عهد قاسم إلى عهد عارف. ومن عهده لعهد صدام، وأخيرا إلى العهد الحاضر. وفي كل نقلة، عانى الشعب وراح يترحم على العهد السابق. حصل الشيء نفسه في مصر. مات سعد زغلول فتسلم الباشوات الحكم. وسقط الباشوات وتسلم العساكر الحكم الذي انتقل من ناصر إلى السادات ثم مبارك والله أعلم لمن سينتقل.

انعكس ذلك في تراثنا الشعبي. شاعت في العراق حكاية شعيط ومعيط. كان شعيط البلطجي يسطو على الأموات.. ينبش قبورهم ويسرق أكفانهم.. ظل الناس يلعنون هذا الرجل، سارق الأكفان، ويدعون الله أن يخلصهم منه. استجاب الله لدعائهم فمات. تسلم العمل ابنه معيط. فعقد العزم على الثأر لأبيه من لعنة الناس. لم يكتفِ بنبش القبور وسرقة الأكفان بل راح يقطع عضو كل رجل ويضعه فوق القبر. واصل هذا العمل حتى أخذ الناس يترحمون على والده شعيط: «الله يرحمه! لقد كان مهذبا لم يتعرض لأعضاء الموتى قط».

في حكاية أخرى عن سلطان ظالم لاحظ امرأة في طريقه تهتف: «تعيش يا جلالة السلطان». تصورها تسخر منه. فأعطاها الأمان واستجوبها: «ماذا تقصدين؟» قالت: «يا حضرة السلطان كان والدك ظالما وابتهلنا لله أن يخلصنا منه. فمات وجئت أنت بدلا منه وإذا بك أظلم منه. أخشى أن تموت أنت أيضا ويأتينا ابنك أظلم منك ومن أبيك. فأطال الله عمرك يا حضرة السلطان».

في حكاية أخرى، ذهب رجل لشراء كلب. سأل البائع عن ثمن كلب كبير قوي، فقال: مائة جنيه. قال: هذا كثير.. ففتش عن كلب أصغر وسأله.. قال: مائتان. كثير! وجد جروا صغيرا فقال البائع: هذا بثلاثمائة. استغرب من ذلك فسأل البائع. قال له: الكبير كلب وثمن الكلب مائة. الصغير ابنه فهو كلب ابن كلب ويتضاعف ثمنه. والجرو ابنه فهو كلب ابن كلب ابن كلب. ولهذا فثمنه ثلاثة أضعاف.

وهو ما حصل في بلداننا الثورية؛ كل حاكم يأتي أظلم من سلفه وأكثر تكلفة. وطالما استشهدت بحكاية الكلاب فعليَّ أن أستشهد بما قاله الشاعر:

مات كلب في المدينة

فاسترحنا من عواه

خلَّف الملعون جروا

فاق في النبح أباه