كأنني لا أعرف.. كأنني!

TT

لا بد أن جريمتي هي أنني حاولت أن أفهم وأنني ضُبطت متلبسا.. فكان اعتقالي في داخلي أولا ثم إيداعي في سجن الليل ثانيا!

ولما تمت أقوالي كان لا بد أن أوقع على محضر الوجود.. فرفضت.. ولما رفضت فإنهم بصموني - أي ضغطني الليل من تحت ومن فوق فكان وجودي بصمة.. وصمة!

وأعجبني هذا المعنى.. وكان ذلك سر شعوري بالارتياح.. فأنا أحب أن تكون لي بصمة.. يراها الناس وصمة.. ولكن إذا خيروني بأن أعيش بلا وصمات، أي بلا بصمات، وبين أن أعيش في قمة التفاهة، لاخترت السجن والبصمات.

إذن، جريمتي أنني حاولت أن أرفع رأسي عاليا لأرى أوضح.. وأن أفتح رأسي واسعا لأفهم أعمق.. لعلي أستوعب ما أقدر عليه، فأستوعب ما لا أقدر عليه.. إنها نفس جريمة «بروموثيوس»، ذلك البطل الإغريقي الذي ذهب إلى السماء وسرق النار وأعطاها للإنسان، فكانت من النار كل قوى الإبداع، وكان منها النور أيضا.

وهذا بالضبط ما أفتش عنه في قلب الظلام.. وأنا قلب الظلام.. وليست حيرتي إلا محاولة مستمرة لأن أجد بصيصا من النار والنور.. وليس هذا الحذر في كل خطوة إلا نوعا من التلصص لعلي أسرق النار والنور من نجوم السماء وأضيء بها الأرض.. ويكون هذا الضوء هو الخيط الأبيض الذي تبدو فيه بقية الخطوط السوداء في نسيج الليل والشارع والبحر والشاطئ وأنا والكون كله! أو هكذا توهمت!

وأنا فعلا توهمت.. فأنا في مكاني منذ وقت طويل.. ولما تعب رأسي من حركة الفكر في داخله.. جعلت أحرك قدمي.. وكأن قدمي رأسان بغير فكر!

وكما تلمع النجوم وتخبو.. كذلك أفكاري وحيرتي ودهشتي.. إنها هي أيضا نجوم مظلمة تماما مثل بقع الشمس التي هي ظلام متوهج.. وأفكارنا تلمع تحت الجلد.. تلمع لنا ولا يراها أحد.. فهي لامعة لنا مظلمة لغيرنا.. إنها هي الأخرى متألقة الظلام.

إن الذي حدث ليس إلا حالة يأس غريب.. فقد جلست أقلب في فنجان قهوة.. وحاولت في الظلام أن أقرأه.. فقد تعلمت ذلك في بلاد الصين.. ولم أستطع أن أرى شيئا.. فخلعت إحدى عيني وألقيتها في الفنجان.. ورحت أرج الفنجان وعيني معا.. لعلي أرى بعين واحدة ما لا تقوى على رؤيته العينان.

وجعلت أرى بعيني ما الذي تفعله عيني الأخرى.. ولم أتبين شيئا.. فخلعت الأخرى وألقيتها في الفنجان.. ورحت أرج عينيَّ في ظلام الفنجان.. فعيناي بغيري لا تريان، وأنا بغيرهما لا أرى!