حتى لا تستنزف تركيا أردوغان الوقت بلا نتيجة!

TT

لم يتلاش بعد صدى تصريحات مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، التي قال فيها إن ما يجري في البحرين «نضال حقيقي وإن ما يجري في سوريا هو انحراف عن هدفه لإيجاد خلل في جبهة الممانعة»، حتى أطلق رئيس مجلس صيانة الدستور أحمد جنتي تصريحات خلال خطبة الجمعة الماضية ذهب فيها بعيدا وعبر من خلالها عما بقي كبار القادة الإيرانيين يتسترون عليه، على أساس طريقة «التقية» المعروفة، حيث قال: «إن الحوار الذي يجريه البحرينيون غير مجد وإنه يجب أن يفتح المسلمون هذا البلد»!!

ووصف جنتي، الذي هو أحد أكبر العلماء في إيران وقاضي محكمة الثورة وإمام جامعة طهران المؤقت وعضو مجلس الخبراء وعضو هيئة تشخيص مصلحة النظام وعضو المجلس الأعلى للثورة الثقافية، وكل هذا بالإضافة إلى أنه رئيس مجلس صيانة الدستور - الحوار الوطني في البحرين بأنه يهدف إلى الاحتلال وقال: «إنه يجب أن يحكم الإسلام في هذا البلد»!!

وهذا يعني أنه لا فائدة إطلاقا مما يقوم به وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو إذا كان هدف زيارته الأخيرة إلى طهران فعلا هو السعي لإنهاء الخلافات والتعارضات التي وصلت إلى ذروتها بين دولة «الولي الفقيه» وبعض الدول العربية، إن ليس كل الدول العربية. باستثناء بعض الاستثناءات القليلة، فإيران، التي عبر أحمد جنتي عن حقيقة مواقفها بعيدا عن طريقة «التقية» المتبعة هناك حتى على صعيد السياسات الدولية العليا، كما يبدو بل كما هو مؤكد، تنظر إلى الدول العربية والإسلامية نفس نظرة رئيس مجلس صيانة الدستور الإيراني إلى البحرين، التي هي حسب رأيه، الذي هو رأي علي خامنئي ومحمود أحمدي نجاد بالتأكيد، ليست دولة مسلمة ويجب أن يفتحها المسلمون من جديد، والمقصود هنا بالطبع هو جمهورية الثورة الخمينية.

إن هذه هي إيران الحالية وإن هذه هي حقيقة قناعات وتوجهات قادة هذا البلد الذين خلفوا الإمام الخميني، تجاه «أشقائهم العرب» وتجاه المسلمين من غير أتباع المذهب الجعفري الاثني عشري وفقا لطريقة إسماعيل الصفوي، الذي أجرى تعديلات على هذا المذهب الشريف وأخطرها بدعة «الولي الفقيه» فأخرجه من إطاره السابق الذي كان موضع احترام وتقدير أئمة المذهب السني وخاصة أبو حنيفة النعمان والشافعي ومالك بن أنس - رضوان الله عليهم كلهم.

عندما يقول أحمد جنتي، الذي يحتل هذه المناصب والمواقع آنفة الذكر كلها، إنه يجب أن يفتح المسلمون هذا البلد، أي البحرين، مرة أخرى فإنه من خلف ستار «التقية» يعني كل الدول العربية الخليجية وغير الخليجية، باستثناء سوريا وباستثناء جماهيرية القذافي التي تضعها دولة الولي الفقيه في إطار منظومتها المذهبية طالما أن (الأخ قائد الثورة) دأب على الادعاء بأن جماهيريته هي امتداد الدولة الفاطمية على المذهب الإسماعيلي، وأن علمها الأخضر هو علم هذه الدولة التي أسسها عبد الله المهدي في جنوب تونس الحالية بعد فراره من بلدة «السلمية» في سوريا هروبا من ملاحقات الحشاشين ومجازرهم الذين كانوا حكموا البحرين لسنوات طويلة.

وهنا، فإنه لا بد من التأكيد مرة أخرى على أن الحديث عن إيران وفقا لما قاله أحمد جنتي وما قاله علي خامنئي، وغيرهما من قادة جمهورية الولي الفقيه الحالية، لا يعني إطلاقا المذهب الجعفري الاثني عشري الشريف ولا أتباع هذا المذهب العرب، إن في العراق وإن في البحرين وإن في الكويت وإن في لبنان، كما أنه لا يعني غالبية الشيعة الإيرانيين الذين لا يوافقون على تكفير المسلمين والدعوة لـ«فتح» بلدانهم مرة أخرى، والذين بقوا يكابدون الأمرين منذ أن سلطت عليهم دولة الثورة الخمينية هذه المجموعة المتزمتة والمتطرفة التي أقصت آية الله العظمى حسين منتظري الذي كان هو المهندس الميداني الفعلي لهذه الثورة، وفرضت عليه الإقامة الإجبارية في منزله المتواضع في «قم» إلى أن انتقل إلى جوار ربه، رحمه الله، بعد مكابدات استمرت لأعوام ظالمة طويلة.

والمشكلة هنا أن هذه العقلية التي يمثلها أحمد جنتي كانت سعت وبقيت تسعى إلى تحويل أتباع المذهب الجعفري الاثني عشري الشريف في العراق ولبنان والبحرين وبعض دول الخليج إلى أقليات إيرانية تتبع سياسيا إلى طهران وليس إلى «قم» أكثر من تبعيتها إلى عواصم بلدانها، وحقيقة أنها قد حققت نجاحا جزئيا في العراق وفي البحرين ونجاحا كاسحا في لبنان بعد هيمنة حزب الله، الذي أنشئ في بدايات ثمانينات القرن الماضي بإشراف السفير الإيراني الأسبق في دمشق محمد حسن أختري، ليكون رأس جسر للنفوذ الإيراني في هذه المنطقة، على غالبية الشيعة اللبنانيين بعد إقصاء زعاماتهم السياسية والدينية التاريخية والعريقة.

وهكذا ولأن هذا هو واقع الحال فإنه، على تركيا أردوغان أن تدرك أنها لن تغير في هذه السياسة الإيرانية ولو بمقدار قيد أنملة، حتى لو أنها أرسلت أحمد داود أوغلو إلى طهران في اليوم الواحد ألف مرة، فهذه الدولة التي من المفترض أنها تشكل العمق الاستراتيجي للعرب والأتراك بادرت، وبمجرد انتصار الثورة الخمينية في فبراير (شباط) عام 1979، إلى تبني مشروع الشاه محمد رضا بهلوي الفارسي التوسعي والسعي الدؤوب لتحويل شيعة هذه المنطقة ومعهم سوريا بنظامها الحالي إلى رؤوس جسور متقدمة في بلدانهم لهذا المشروع الذي يهدف إلى استعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية القديمة قبل انبلاج فجر الرسالة الإسلامية العظيمة التي جبت ما قبلها.

لن تنجح تركيا في إقناع طهران بضرورة التخلي عن تطلعاتها الإمبراطورية للهيمنة على المنطقة والتوقف عن تدخلها السافر الأمني والعسكري والسياسي في الشؤون الداخلية السورية، فقبل أيام قال علي خامنئي، الذي هو مرشد الثورة والولي الفقيه والقائد المبجل الذي لا رأي في طهران إلا رأيه على اعتبار أنه معصوم عن الخطأ: إن ما يجري في سوريا هو انحراف هدفه: «إيجاد خلل في جبهة الممانعة». والمعروف أن جبهة الممانعة هذه، التي كان خالد مشعل قد أطلق عليها اسم «فسطاط الممانعة والمقاومة»، تضم بالإضافة إلى إيران وسوريا كلا من حزب الله بقيادة حسن نصر الله وحركة المقاومة الإسلامية (حماس).

لا جدوى من كل هذه الجهود التي تبذلها تركيا أردوغان لإعادة صياغة معادلة هذه المنطقة بحيث تكف إيران عن تدخلها في الشؤون العربية وتصبح جزءا من هذه المعادلة المفترضة، فإيران متورطة إلى جانب قوات الرئيس بشار الأسد في مواجهة هذه الانتفاضة الشعبية السورية، وإيران متورطة في لبنان بدعم حزب الله ليستكمل هيمنته على هذا البلد بعد إقصاء سعد الحريري وحكومته وتكتله والمجيء بهذه الحكومة التي يرأسها نجيب ميقاتي لتكون مجرد ختم مطاطي لحسن نصر الله وميشال عون، ولتستكمل مهمة تحويل لبنان كله إلى رأس جسر متقدم على شواطئ البحر الأبيض المتوسط للأطماع التوسعية الإيرانية، وأيضا فإن إيران متورطة في تعطيل المصالحة الفلسطينية.

هناك رغبة حقيقية وصادقة لدى المملكة العربية السعودية ولدى دول عربية أخرى في فتح صفحة جديدة من العلاقات الأخوية المفترضة مع إيران وعلى أساس المصالح المشتركة وعدم تدخل أي طرف في الشؤون الداخلية للطرف الآخر، لكن هذه الرغبة بحاجة إلى رغبة مماثلة من قبل القادة الإيرانيين الذين عبر عنهم وعن حقيقة آرائهم أحمد جنتي في تصريحاته المشار إليها آنفة الذكر.