الفصول الأربعة العربية

TT

يردد المحللون السياسيون لفظ «الربيع العربي» لوصف الثورات الشعبية التي انطلقت في كثير من الدول العربية باحثة عن الحرية المسلوبة والكرامة المفقودة، ومحاربة للفساد والاستبداد، ومحاولة لإعادة الأمور إلى صوابها، بعد أن استبيحت بلادهم، وبددت أموالها، وسلبت حقوقهم وأوصلت الأمور إلى مستويات متدنية، وكانت لحظة الانفجار مجرد مسألة وقت؛ لا أكثر. ولكن الربيع العربي جاء نتاج الفصول الثلاثة الأخرى؛ «فالخريف» كان له دور كبير في أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، لأن أنظمة الحكم نفسها وما تشمله من دساتير وأنظمة وأحزاب شاخت قبل أن يشيخ الحكام أنفسهم، وبالتالي، تولدت الفجوة الكبرى بين الحاكم والمحكوم ودخلت العلاقة في فصل الشتاء البارد المليء بالجليد المجمد وأصبح الوضع جامدا.. فقد فيه الأمل بالحراك، وبالتالي، التغيير.. إلى أن تصل الأمور لمرحلة الغليان فيكون فصل الصيف الحار وما يأتي معه من هبوب. وكان مثيرا ولافتا ومهما أن يكون انطلاق ثورات الربيع العربي من بلاد بعينها؛ فتونس لها تراث من النضال والاستقلال وعلى اطلاع كامل بأدبيات ابن خلدون في أصول الحكم الرشيد الذي قدمه بعبقرية فذة في كتابه الاستثنائي «مقدمة ابن خلدون».. وحتى مصر هي الأخرى كان لها جهادها في معارك الاستقلال وأفرزت قيادات من أمثال أحمد عرابي ومحمد فريد ومصطفى كامل وسعد زغلول، وكذلك الأدبيات المهمة في المجال نفسه، ومن أهمها كتاب الأزهري المعروف علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، وليبيا التي يكفيها فخرا أنها أنجبت عمر المختار بنضاله المهول أمام قوى الاستعمار ومواقفه الخالدة، وحتى سوريا لها هي الأخرى صولاتها وجولاتها مع الاحتلال الغاشم لها، وأفرزت قادة فطاحل من أمثال يوسف العظمة وهاشم الأتاسي، وكذلك كان لابن حلب العظيم عبد الرحمن الكواكبي كتاب خالد بات مرجعية في الفكر السياسي الإسلامي وتحديدا في مسألة الاستبداد.. هذه الشعوب وغيرها التي نعتت لعقود من الزمن بأنها جاهلة ومتخلفة وغير «مؤهلة» ولا «مستعدة» للديمقراطية والمشاركة في الحكم، وبالتالي، لا يمكن حساب أي دور لهم، فاجأوا العالم وأذهلوه بقدرتهم على التوحد في مواجهة الاستعباد، والتحرر في مواجهة الاستبداد بشكل جماعي وبأسلوب سلمي ومسؤول بعيدا عن الطائفية والعنصرية والقبلية بشكل عام. اختلفت أساليب الحكم بين أشكال وأنواع كانت تقدم للسوق الشعبية السياسية، سواء أكانت علمانية مثل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي بتونس، أم حزب البعث العربي الاشتراكي بسوريا، وكلاهما لم تكن له أية علاقة باسمه؛ فلا التجمع كان دستوريا ولا ديمقراطيا، ولا البعث كانت له علاقة بالاشتراكية أبدا. وفي اليمن كان حزب المؤتمر الشعبي العام يحاول جاهدا أن يروج لنفسه بأنه يحكم للشعب وباسم الشعب، وتبين أنه يكرس حكم العائلة والقبيلة، وكذلك كان الوضع بالنسبة للحزب الوطني الديمقراطي في مصر الذي وجد لحماية ثروات أعضائه التنفيذيين والعمل على تقوية وضعهم وممارسة الديمقراطية بالبلطجة والتزوير. حتى الدساتير باتت مهزلة وأضحوكة.. في سوريا فصلوا الدستور في خمس دقائق وغيروه ليكون على مقاس الابن الوارث للرئاسة بعد أبيه، وفي مصر، عدلوا مادتين فيه ليجهزوا الطريق ويعبدوه ليصل ابن الرئيس لمنصب الرئاسة بشروط تعجيزية على كل فريق أو طرف يرغب في الترشح، وفي تونس، تم التلاعب بالمواد لتحذف فقرات تحديد مدة الرئاسة وتصبح ممارسة مدى الحياة، وفي ليبيا، لم يكن هناك أصلا دستور، وتركت المسألة «بوهيمية» تماما مثل حال العقيد القذافي الذي كان يحكم ليبيا بلا منصب رسمي في سابقة هستيرية..

الربيع العربي لم يأت من فراغ، بل جاء نتاج أسباب مهمة ودقيقة، ومن المعيب جدا إنكارها والاستخفاف بها وتجييرها لصالح نظريات تآمرية بتدخل أطراف خارجية في الشؤون الداخلية.

إن خلل أنظمة الحكم العربية وعجزها عن تطوير نفسها لتؤمن العيش الكريم لشعوبها، ومنحهم الحقوق المرجوة، وتوفير التعليم، والصحة، والقضاء العادل، بمساواة حقيقية، ومحاربة الفساد الذي استشرى وحول المرافق الحكومية إلى مرتع للمحاسيب والأنصار بشكل مفزع ومريب وكأنه جزء من المنظومة الحاكمة.. كل ذلك كان حتميا أن يولد الغضب ويفرز معه الحال الحاصل الآن ويشكل ظاهرة الربيع العربي الكبرى التي لا يمكن إنكارها. وإذا لم تتم معالجة هذه العناصر المذكورة بدقة وأمانة، فالظاهرة لن تختفي.

الفصول الأربعة ليست اسم سيمفونية موسيقية للموسيقار الإيطالي المعروف فيفالدي الذي ذاع صيته في عصر النهضة الأوروبية، ولا هي اسم سلسلة فنادق عالمية منتشرة بنجاح، ولكنها أيضا توصيف دقيق للحال السياسي الدقيق لدول العالم العربي.

سيطول موسم الربيع ، وستثمر أزهاره، وسيتغير كل ما كانت تتنشقه الشعوب، ولعل أول ما سيتم تنشقه هو عبق نسائم الحرية.

[email protected]