الدستور المغربي: من التصديق إلى التفعيل

TT

الدستور ميثاق يتعاقد بشأنه طرفان اثنان أو أطراف عدة، فهو بالتالي عقد اجتماعي. غير أن العقد الاجتماعي يظل مبادئ عليا سامية ومفارقة للواقع ما لم يتم تنزيله على أرض الممارسة السياسية وذلك بترجمته في نصوص تشريعية تنظيمية أولا، وفي تنفيذ مقتضياته ثانيا. والمغرب اليوم في مثل هذه الحال بالضبط، والمغاربة أمام دستور جديد صادقوا عليه في الأول من يوليو (تموز) الحالي. الدستور المغربي الجديد يتطلب التفعيل، والمغاربة يتطلعون إلى تنزيل يغدو الدستور بموجبه موجها للفعل ومنارة تنير الطريق في الوقت ذاته.

تفعيل الدستور يعني القيام بإجراءات عديدة، بعضها مواكب لبعض، وتستوجب المبادرة إلى التنفيذ. يعني التفعيل، من جانب أول، الانكباب على إعداد القوانين التي تنتظر التشريع لها عملا بمقتضيات الدستور الجديد؛ ذلك أن هيئات جديدة يعلنها الدستور، فيما تنص الفصول التي قررت إحداثها على إصدار قوانين تشرح وتنظم عمل هذه الهيئات الجديدة. والتشريع عمل المشرعين، وهؤلاء هم النواب الذين يتم اختيارهم عن طريق الانتخابات والتصويت. والنواب، في البرلمان الحالي، يتأهبون للمغادرة، ومن المفروض أن يتم عقد الدورة التشريعية الأولى للبرلمان في الجمعة الثانية من شهر أكتوبر (تشرين الأول)؛ كما ينص الدستور على ذلك. ومن البرلمان الجديد تنبثق الحكومة، في الصيغة الجديدة التي يحددها الدستور الجديد كذلك. هذه الصيغة تجعل للحكومة رئيسا وليس وزيرا أول فحسب، وتجعل من مجلس الحكومة هيئة دستورية لها سلطات تنفيذية تخالف تلك التي كانت لسابقاتها، والأهم من هذا وذاك، أن الملك يعهد بتشكيل الحكومة إلى شخص من الحزب الذي ينال أعلى الأصوات في الانتخابات التشريعية. يصح القول، لكل هذه الاعتبارات، إن الحكومة الحالية تعيش نوعا من الحرج السياسي؛ فهي في وضع حكومات تصريف الأعمال.. فمن الناحية المبدئية يتعين أن تتم في البلاد، في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة، انتخابات تشريعية يتم بموجبها تشكيل الغرفة الأولى من البرلمان، أما الشأن في الغرفة الثانية فآخر، فليس من المستبعد أن تتجاور الغرفة الأولى الجديدة مع غرفة ثانية قديمة، وربما ظل الأمر كذلك لأشهر عدة (الغرفة الثانية، في الجزء الأكبر منها، تتألف من ممثلي المواطنين في الجهات والجماعات).

بيد أن تفعيل الدستور الذي تمت المصادقة عليه في مطلع الشهر الحالي، يستوجب استجماع شروط ضرورية حتى يكون المناخ الملائم موجودا والتربة الصالحة متوافرة من أجل إنجاح النقلة الكيفية التي يحلم بها المغاربة والتي كانت «العقد الاجتماعي» الجديد الذي أبرموه عن توافق وتراض. هي بالجملة شروط أساسية ثلاثة، أو لنقل في عبارة أخرى، إنها عوامل ثلاثة يستلزم التفعيل الإيجابي توافرها. ربما وجب القول كذلك إنها بمثابة الممهدات الواجبة من أجل تنزيل الدستور الجديد على أرض الوجود الفعلي.

العامل الأول هو التوافر على ممثلين فعليين للأمة يجتمع فيهم شرطا النزاهة الأخلاقية والكفاءة السياسية، وهذا من جانب أول، وتحقق انتخابات تتسم بصفات النزاهة والشفافية والتمثيلية الفعلية لقوة سياسية مسؤولة. وبعبارة أخرى يقتضي الأمر، من قبل الأحزاب السياسية التي يكون الترشيح لخوض الانتخابات التشريعية باسمها والتحدث ببرامجها السياسية، أن تكون القاعدة في منح التزكية الضرورية من أجل الترشيح هي ما ذكرنا من شروط يلزم توافرها في المرشح، وهي، على كلٍّ، شروط سهلة واضحة يرتضيها الشرفاء من المناضلين في الأحزاب السياسية الجديرة بثقة المواطن. في كلمة واحدة نقول: إن تقديم المرشح الكفء النزيه المشبع بالنظرية الحزبية التي يدعي أنه يمثلها والقادر على الدفاع عن برنامج الحزب الذي يرشحه لخوض المعركة الانتخابية، وهذا من جانب أول، وتوافر شروط الشفافية والنزاهة والتأمين في العملية الانتخابية برمته (وعلامات ذلك: ضمان الحياد الإيجابي للإدارة، وغياب المال الحرام في الحملات الدعائية للمرشحين، وانتفاء كل أشكال الضغط الأخرى) وهذا من جانب ثان.. كل هذه من الأمور التي يتشوف إليها الناخب المغربي. لست أجد سببا آخر أكثر مما ذكرت قوة وإقناعا معا يحمل المواطن المغربي على التوجه على صناديق الانتخابات لاختيار نائب يمثله في البرلمان.. إنه رهان، بيد أن إنجاحه أحد الضمانات الأكيدة في تفعيل إيجابي للدستور الذي تتوسع فصول عديدة من فصوله في القول في الحريات العامة وفي الحقوق وكذا في الشفافية والمسؤولية.

العامل الثاني يساند العامل السابق، بل إنه يتداخل معه أشد ما يكون التداخل.. القصد منه، في كلمة جامعة نقول فيها اليوم إجمالا لا تفصيلا، هو الأحزاب السياسية. يكفي أن نقول بأن الحزب السياسي، بموجب الفهم العميق لأحكام الدستور المغربي، هو المحضنة التي تمد كلا من الحكومة والبرلمان بالنساء والرجال الذين يشكلون مادتها، أو لنقل إن المفترض في الأمر أن يكون كذلك. وإذا كنت لا أريد اليوم أن أطول نفسي - كما يقول المتكلمون - في حديث الحزب السياسي في المغرب لأن ذلك يستوجب أن تفرد له أحاديث واجبة مقبلة، إلا أنني أجمل القول إجمالا في جمل ثلاث أزعم أن مدار الحديث عن الحزب السياسي في المغرب يرجع إليها وجوبا.. الجملة الأولى: إن الحزب السياسي في المغرب اليوم يستلزم من أهله القيام بعمل النقد الذاتي الجذري، ذلك أن ممارسات شائنة عديدة تسيء إلى الحزب وتحمل على العزوف عن السياسة. الجملة الثانية: إن النخب الحزبية في المغرب في حاجة إلى تجديد يكون به إحياء الأمل في النفوس الكثيرة التي فقدت الأمل، أو إن الأمل أصبح فيه، نتيجة ممارسات شائنة أيضا، أملا واهيا ليس مما يفيد في العمل السياسي وليس مما يكون به للحزب غد مشرق ولا يوم مشرف. الجملة الثالثة: إن واقع الأحزاب السياسية في المغرب اليوم، من جهة التعدد الاصطناعي الذي لا يعكس تعددا في الرؤية السياسية وإنما يعبر عن أطماع رخيصة.. هذا التعدد، يستوجب الآن (من قبل الأحزاب التي ترى لنفسها حظا من المصداقية) المبادرة إلى تكتلات سياسية عظمى، تكتلات عمادها التقارب في البرامج السياسية وفي الرؤى الآيديولوجية وليس الحسابات الانتخاباتية الضيقة. وبالجملة، فالأمر يقتضي من الأحزاب السياسية الجادة شجاعة في الرأي وجرأة في الإقدام. غير أن التفعيل الإيجابي للدستور المغربي يتصل بهذه الجرأة وبتلك الشجاعة بأكثر من سبب وصلة. الأمر الثالث، ونحن نوجز القول فيه مع الإدراك الكامل لخطورته في الممارسة الديمقراطية الطبيعية؛ بل وفي تمكين مقتضيات الدستور من العمل والتأثير الإيجابيين، هو الإدارة وما يتصل بها.. الإدارة، كما هو معلوم، نظم وترتيبات وبيروقراطية (نقولها بالمعنى الإيجابي الذي يفيد النظام والعقلنة في التدبير، مما يغفل كثيرون عن إدراك معناه الأصلي). والإدارة موظفون، رجالا ونساء، يتدرجون في المراتب الإدارية وفي المسؤوليات. والإدارة، فوق هذا وذاك، ذهنية تتحدد بموجبها العلاقة مع المواطنين والمواطنات. والأمر في المغرب، شبيه بما هو عليه في العديد من دولنا العربية وفي الغالب الأعم من بلدان العالم.. يعرف من الفساد أصنافا مختلفة يكون منها التعثر في الأداء، والسوء في التسيير، وضياع كبير للجهد والطاقة، ونزول صور مؤلمة من الظلم أحيانا غير قليلة. ربما كان المغرب في عداد دول العالم الثالث التي اجتهدت في إحداث كثير من التغيير في الآليات الإدارية (من ذلك، مثلا، أن الحوسبة عرفت طريقها إلى بعض المصالح الإدارية)، بيد أن الذهنيات لا تزال، بالجملة، على حال من التكلس والجمود على العادات القديمة، وأسوأ ما في الأمر هو الخلل الحاصل في طبيعة العلاقة الواجب قيامها بين المواطن والإدارة.

نقول في كلمة أخيرة: إن معارك كثيرة، متأنية، يستوجب الأمر خوضها حتى يغدو في الإمكان تهيئة المجال السليم لتفعيل دستور يعد بالحسن والجميل.