الإشارات الإلهية في الثورات العربية

TT

هذه الأيام، وبعيدا عن أخبار القتل والقمع والمناورات في العالم العربي، أستمع باستمرار إلى الكتاب الصوتي لتحفة أبي حيان التوحيدي «الإشارات الإلهية»، وأحلق مع كل إشارة في أفق بعيد.

الكتاب فريد من نوعه، وتأملاته صاخبة وهادئة في الوقت نفسه، خطتها براعة التوحيدي (توفي 414 هـ) الأديب المفكر، أو فيلسوف الأدباء كما وصفه المعجمي الكبير ياقوت الحموي.. هو يتعجب من انصراف المؤلفين المسلمين عن ذكر أخبار وفضائل وحكم ومؤلفات هذا المبدع البغدادي الشيرازي المتفرد بين زمرة الأدباء التقليديين، والشاكي دوما من سوء حظه.

التوحيدي الشهير بنثره شبه المعجز، وبروحه الصوفية الإنسانية، وبنظراته الحكيمة للحياة، كأنه يتكلم عن معاناة الإنسان العربي «المهتم» بالفهم الآن، والمعاني من الاغتراب.

نحن في زمن الاغتراب العربي الكبير، عن الوطن، وفي الوطن، وعن النفس، وفي النفس، وعن الناس، وفي الناس. انظر ماذا يقول التوحيدي لك ولي قبل مئات السنين:

«وقد قيل: الغريب من جفاه الحبيب. وأنا أقول: بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب، بل الغريب من حاباه الشريب، بل الغريب من نودي من قريب، بل الغريب من هو في غربته غريب، بل الغريب من ليس له نسيب، بل الغريب من ليس له من الحق نصيب. فإن كان هذا صحيحا، فتعال حتى نبكي على حال أحدثت هذه الغفوة، وأورثت هذه الجفوة:‏

لعل انحدار الدمع يُعْقِبُ راحة

من الوَجْد أو يشْفِي نَجِي البلابل

يا هذا.. الغريب من غَرُبَتْ شمس جماله، واغترب عن حبيبه وعُذّاله، وأَعْرَبَ في أقواله وأفعاله، وعَرّب في إدباره وإقباله، واستغرب في طِمْره وسِرْباله.

يا هذا.. الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة، ودلّ عنوانه على الفتنة عُقَيب الفتنة، وبانت حقيقته فيه الفينة حد الفينة. الغريب من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه. الغريب من إن حضر كان غائبا، وإن غاب كان حاضرا. أما سمعت القائل حين قال:‏

بِمَ التعلّل؟ لا أهل ولا وطن..

ولا نديم ولا كأسٌ ولا سَكَنُ».

ويقول التوحيدي، هذا الشاعر، بلوعة الاغتراب العميق، أيضا في إشاراته:

«يا هذا.. الضلوع مشوية بالأسى والحزن، والأكباد متهرئة بأنواع الآفات والسقم، والأرواح ذائبة في ضروب الحسرة واليأس، فلا إلى الخلوة معاج، ولا بالمجالس ابتهاج. ليل يكربهم ناصب، ونهار يمر بكرب لازب. وعلم - مع ذلك كله - لا ينفع، وعمل لا يصح.

فقل لي: الآن بمن أتعلق ولمن أتملق؟ وماذا أقول وأي شيء أقول وأسمع؟ وفي أي شيء أفكر وبأي ركن ألوذ؟ وفي أي واد أهيم؟».

صحيح أن تأملات هذا الأديب العراقي القديم، تميل للتشاؤم، لكنه تشاؤم مبني على وجوب الغوص في الذات قبل انتظار الخلاص من خارج النفس والروح. فهو تشاؤم مقيد ومشروط.

كم كان التوحيدي نافذا عبر حجاب الزمن، وكم كانت إشاراته مبهرة التوهج حتى أرسلت قبسات نورها عبر جدار الليل الحاضر.

قد تختلف أسباب الاغتراب، وتتنوع علل العذاب، لكن يبقى أن الألم واحد، وهو فقدان الاتصال الحميمي بما حولك من أحوال، وبمن حولك من أناس..

والخلاص إما بالاستقالة الشعورية مما هو خارج شعورك، أو الانغماس فيه حد الذوبان، ولا حل في المنتصف..

أو هكذا فهمنا من إشارات السابقين..

[email protected]