الحزب الواحد

TT

أسقط حزب البعث في العراق بالقوة، وسقط الحزب الوطني في مصر حتى قبل تنحي الرئيس حسني مبارك، والآن تعد سوريا بإلغاء الفقرة الثامنة من الدستور، التي تجعل من البعث حزبا قائدا، فهل العلة في حكم الحزب الواحد؟ عمليا، هناك حزب واحد يحكم في أميركا وبريطانيا فيما يعارض حزب آخر، وهناك حزب حاكم في سنغافورة خرجت في ظله من عالم المستنقعات والبعوض إلى صف أكثر الدول تقدما، وهناك حزب اشتراكي يحكم السويد منذ قرنين، فلماذا يجدد له، في أكثر الانتخابات حرية ونزاهة؟

لسبب بسيط جدا.. الاشتراكية في السويد هي اشتراكية 2011، ليست لوحا حجريا، بل مجموعة قوانين تعدل للحفاظ على سلامة البلد الاقتصادية والأمنية. اكتشفت الدولة أن الضرائب تدفع الأغنياء إلى ترك البلد، فعمدت إلى خفضها، لأن الأغنياء تهرب معهم مصانعهم واستثماراتهم.. واكتشفت أن التأمينات الاجتماعية تشجع الشباب على الكسل فربطتها بشروط كثيرة.

هل الحزب الديمقراطي المسيحي الذي يحكم ألمانيا اليوم هو الحزب الذي كان يحكمها قبل نصف قرن؟ اللغة الإنجليزية (والفرنسية) تغيرت طريقة كتابتها من أجل أن يفهمها ولا يهرب منها إنجليزي اليوم.. شكسبير لم يعد موجودا إلا في المسرح ومعاهد التمثيل وعند أهل الاختصاص، وكل قصيدة له يرفق بها شرح أطول منها.

حزب البعث طرح أجمل شعارات سياسية وتركها كتابة على الحائط.. نادى بالوحدة والحرية، حُلمي العرب، كما نادى بالاشتراكية.. ولم يبق من الحبر إلا الورق؛ الحرية تحولت في العراق إلى سجن مؤبد، والاشتراكية تحولت في سوريا إلى بطالة مريعة وصدأ اقتصادي، وأما في الوحدة، فصارت دمشق أقرب إلى إيران من أي بلد عربي.

الحزب الحاكم في مصر أسقطه أيام عبد الناصر «المدعي العام الاشتراكي»، وأسقطه أيام السادات عثمان أحمد عثمان، وأهزله أيام مبارك أنه صار سجادة حمراء لجمال مبارك يفرشها رموز الفساد الفاقع. حمى الحزب الواحد في السويد وفي سنغافورة وفي بريطانيا القانون الذي منع الفساد، أكبر حد بشري ممكن.. دمر فتح وجعلها تخسر، أما حماس، فغرق رجالها في الفساد. الرجال القلة الذين يذكرهم لبنان الحديث هم الذين بقوا على نظافتهم. لا يمكن أن تأخذ من الناس شيئا دون بديل له. أخذ السويديون الضرائب العالية وأعطوا الرخاء والتقدم، وأخذت سنغافورة من الناس التعاطي في السياسة وأعطتهم كل ما هو أجمل منها. الذين حكموا باسم البعث في العراق وسوريا، أخفقوا في تقديم أي بديل.. قلدوا النظام السوفياتي ولم ينتبهوا إلى أنه أقيل قبل ربع قرن. وما انتبهوا أن ثمة لغة برمتها قد تغيرت منذ ربع قرن؛ ليس بمعنى أن الحرية، والوحدة، وفلسطين، والعروبة، أصبحت شيئا من الماضي، بل بمعنى أنها أصبحت مرارة وخيبة كبرى. المشكلة ليست في الحزب الواحد.. هذا معمر القذافي يلغي كل حزب إلا نفسه، ويصل إلى أن لا مشكلة إلا نفسه.