بائع التماسيح

TT

الصحافة هي أحد أسس الممارسة الديمقراطية؛ لذلك تسعى النظم الديكتاتورية، في اللحظة الأولى لقيامها، إلى إلغاء الجرائد وتأميم الإذاعة والتلفزيون. أما الدول العاملة بالديمقراطية فتسعى، عادة، إلى تنظيم الحريات الصحافية من خلال قوانين عامة. ويفترض في هذه القوانين، عادة، أن تتحاشى وقوع الإعلام في قبضة الاحتكار، لكي لا يتساوى الرجل الواحد مع الحزب الواحد.

وقعت أشهر وأعرق الصحف البريطانية والأميركية في قبضة رجل واحد، هو الأسترالي روبرت مردوخ، الذي توصل إلى تملك أوسع وأغنى مجموعة إعلامية في التاريخ. حقق مردوخ نجاحات مالية لا مثيل لها. نفض الصحف العريقة المتهالكة مثل الـ«تايمز» وجدد شبابها وأدخلها آخر مراحل الحداثة. وتحولت الصحافة معه إلى صناعة مربحة توظف آلاف الناس. وتنوعت ممتلكات مردوخ الأسترالي ما بين أهم الصحف السياسية كالـ«تايمز» إلى أهم الصحف الاقتصادية مثل «وول ستريت جورنال» إلى أهم صحف التابلويد كالـ«صن». لكن المستر مردوخ كان يفتقر إلى شيء بسيط جدا: الرقي! رقي المشاعر. وتصرف منذ اللحظة الأولى وكأنه يعيش في غابة أسترالية، سكانها وحوش وثعابين ومفترسون يعيشون من أكل بعضهم البعض. ارتفع توزيع الصحف وهبط مستواها وتحدرت مقاييسها وتحولت إلى مسدسات يغتال بها الكاوبوي الأسترالي حياة الناس وسمعة المشاهير، من دون أي تمييز أو أي تردد.

لم يتوقف عند حرمة لأحد. استفرس على حياة القصر الملكي في بلاد تسمح قوانينها بأن يتملك صحفها الكبرى ناشر من بلاد أخرى. حوَّل الصحافة إلى تجسس وتنصت وخرق حرمات. وعمل بأساليب الرشوة التي كانت صحفه تكتب ضدها. وأسهم في تحويل المجتمع البريطاني إلى مجتمع ثرثرة، تتهدم أسره وتنحط فيه الحياة العائلية. وبعد طول انهيار انتبه البريطانيون إلى ما فعل بهم الخالع الأسترالي. وانتبهت الصحافة الغربية إلى أن الازدهار على حساب الأخلاق سوف يعود الناس على أن العمل الصحافي هو عمل موازٍ للجريمة، الإنسانية والأخلاقية.

قبل مردوخ، كان غريب آخر قد قاد الصحافة في طريق الهبوط، هو التشيكي روبرت ماكسويل، الذي قتل غرقا في مياه جزر تناناريف. أما الغريب الأول في فليت ستريت، الكندي اللورد طومسون، فالتزم القواعد والضوابط وأسهم في تطهير الصحافة بإقامة واحد من أهم المعاهد لتدريسها. بإغلاق صحيفة «نيوز أوف ذي وورلد» بدأت إمبراطورية الخدع والمخادع والفضائح والفظاظات، التي بناها مردوخ، في الانهيار. لم يعد الانتساب إليه فخرا في بريطانيا، بل صار عيبا. لقد تذكرت بريطانيا، أخيرا، أنها ليست بلد الحرية الصحافية وحدها بل بلد القانون أيضا. والخروج على القانون لا يكون فقط بإطلاق المسدسات، بل أيضا بنشر الروائح الكريهة في المجتمعات الكبرى.

لن يجد روبرت مردوخ من يأسف لما سوف يؤول إليه. والجلاوزة الذين استخدمهم كصحافيين سوف يبحثون عن أعمال أخرى تتناسب مع أعمال المرتزقة والجواسيس والمخبرين والجلادين. وليس صحيحا أن الحداثة تعني التفلت من كل قانون وكل خلق. كلاهما سوف ينتقم لنفسه من بائع التماسيح الأسترالي.