هزيمة مردوخ خسارة للديمقراطية

TT

حملة اليسار الهستيرية ضد صاحب دور النشر روبرت مردوخ أدت إلى تداعيات تهدد الدور الديمقراطي لأهم سلطة رابعة في العالم الحر اليوم.

في مقابلته في «سي إن إن» الاثنين الماضي، هز توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، كتفيه بلا اكتراث لسؤال متشنج من المذيع وولف بليتزر عما اعتبره اقتحام الصحافة البريطانية لحياته الخاصة، مستشهدا بتقارير سلبية عن زوجة بلير، وهي محامية كبيرة في إنجلترا، نشرتها الـ«ديلي ميل»، التي عارض خطها التحريري حكومته العمالية. قال بلير ضاحكا إنها مضايقات تافهة ضمن أعباء منصب يواجه شاغله مؤيدين ومعارضين.

وحاشا لله أن نأثم بسوء الظن، في تحمس طارح السؤال؛ فبديهيا ترى الشبكة الأميركية منافسة من شبكة «سكاي» (وتغطيتها لثورات الشرق الأوسط هي الأفضل بين جميع المحطات الأنجلوسكسونية)، التي تأسست عام 1987 وتمتلك مجموعة مردوخ 31 في المائة من أسهمها، فسعت لشراء الـ69 في المائة الباقية، وهو دافع اليسار في حملته لإقناع لجنة الاحتكارات برفض خطوة مردوخ في ظل قانون حماية المنافسة.

وليفوت على الساسة فرصة ادعاء الانتصار المعنوي، سحب مردوخ عرض الشراء استباقا لمناقشة مجلس العموم اقتراح زعيم المعارضة العمالية إيد ميليباند بقرار يطالب مردوخ بالتراجع عن الشراء. القرار الذي أصدره البرلمان مساء الأربعاء لغياب أصوات تعارضه، يفتقر آليات التطبيق في سوق كاملة الحرية.

هيئة الـ«بي بي سي» - اليسارية النزعة - خصصت كل برامجها الإخبارية بلا استثناء طوال الأسبوع لادعاء احتكار مردوخ لسوق الصحافتين المطبوعة والمرئية. إحصائيات الهيئة نفسها تبين ارتفاع نصيبها من 68 في المائة كمصدر أخبار أول للمشاهدين عام 2005، إلى 73 في المائة عام 2009. ونسبة مشاهديها من 60 في المائة إلى 70 في المائة في الفترة نفسها؛ بينما تقل نسبة مشاهدي سكاي عن 6 في المائة.

الـ«بي بي سي» تحتكر 40 في المائة من مواقع الإنترنت الإخبارية، أي ضعفي نصيب جميع الشبكات الأخرى والصحف بما فيها مجموعة «نيوز إنترناشيونال» المملوكة لمردوخ، والتي فقدت 8 ملايين قارئ (يمثلون 40 في المائة من قراء المجموعة الذين يشكلون 29 في المائة من قراء بريطانيا بإغلاق «نيوز أوف ذي وورلد»).

الساسة والمشاهير يتهمون الصحافيين بالتطفل والتجسس على أمورهم الشخصية، التي وصفها بلير بـ«مضايقات يجب غض النظر عنها» من أجل حماية الصحافة من التقيد بأي قوانين تنظيمية، كدرع للديمقراطية، فالقوانين العادية كافية لحماية الأشخاص من التجسس على مكالماتهم ومراسلاتهم.

سكن شارع الصحافة الحرة بشياطين قد ترتكب آثاما في كشفها للأخطاء أفضل من ملئه بملائكة يخجلون من كشف العورات السياسية كحال الصحافة الفرنسية التي تنشر الأخبار الطيبة فقط بسبب قانون الخصوصية الفرنسي، الذي يجرم البحث عن معلومات سماها الساسة «خاصة».

والفرنسية صحافة هواة مقارنة بنظيرتها البريطانية التي أسقطت تحقيقاتها وزارات وهزت حكومات للتحرك، آخرها تحقيق كاميرا أخفاها صحافي تنكر كممرض، فكشف سوء معاملة نزلاء المصحات العقلية، مما أدى لفصل ممرضين وإغلاق مراكز، بينما لا يسمح القانون الفرنسي بتحايل صحافي لتسجيل تحقيق مماثل.

الخطورة أن حملة اليسار بزعامة الـ«غارديان» والـ«بي بي سي» قدمت للساسة فرصة انتظروها لخلع مخالبنا، فنتحول من طيور لقنص أخطاء يتحملها دافع الضرائب، إلى ببغاوات تردد البيانات الرسمية كصحافة ديكتاتوريات الانقلابات العسكرية.

الساسة يتربصون بفليت ستريت منذ كشفت «نيوز أوف ذي وورلد» عام 1963 - بشرائها مذكرات الغانية كريستين كيلر - علاقتها الغرامية بجون برفيومو وزير الحربية في حكومة المحافظين آنذاك (المتزوج من ممثلة شهيرة). وكانت لكيلر وصديقتها ماندي رايس - ديفيز علاقة غرامية موازية بعميل للمخابرات السوفياتية أثناء الحرب الباردة. واستقال الوزير بعد نفيه - كذبا - العلاقة في مجلس العموم، وخسرت الحكومة الانتخابات بعد بضعة أشهر.

المثقفون اليساريون يحتقرون الصحافة الشعبية التي يفوق عدد قرائها اليوميين 14 مليونا من عامة الشعب، بينما لا يتجاوز توزيع صحافة اليسار مجتمعة 600 ألف نسخة ضمن مليون ونصف مليون نسخة توزعها الصحافة الرصينة التي تقل نسبة كشفها لتجاوزات الساسة والمشاهير عن 10 في المائة من تحقيقات الصحافة الشعبية.

سلسلة تحقيقات الصحافي مظهر محمود، من «نيوز أوف ذي وورلد» طوال 17 عاما تنكر أثناءها في زي شيخ خليجي يعرض الرشوة لتسوية أعماله، كشفت جشع علية القوم وساسة يقعون في الفخ.

برامج الـ«بي بي سي» استضافت نجوم سينما وكرة قدم ومشاهير يطالبون بقانون خصوصية كفرنسا. كلهم خسروا في الماضي قضايا رفعوها ضد صحف كشفت نفاقهم. بعضهم تشدق بالعفة والإخلاص الزوجي فضبطه الصحافيون مع بائعات هوى، ورياضيون متدينون ضبطوا يتلقون رشاوى للتلاعب بنتائج المباريات.

أشهر فضيحة دفعت الساسة لانتهاز أول فرصة للانقضاض على الصحافة، كانت تلاعب البرلمانيين في ملايين من المصروفات الإضافية المخصصة لخدمة الناخبين. أكثرهم أنفقوها في أوجه لا علاقة لها بنشاط البرلمان، كفاتورة كابل مشاهدة زوج وزيرة سابقة أفلاما فاضحة، أو إنشاء بركة للبط في حديقة منزل وزير محافظ سابق.

حارس ليلي نقل المعلومات على قرص كمبيوتر باعه للـ«ديلي تلغراف» بربع مليون جنيه إسترليني. ورغم ذلك لن يدين أي قاض الصحيفة لأن النشر جاء للصالح العام. وبدلا من الاحتكام للقضاء المستقل، يريد الساسة احتكار تحديد ما هو «الصالح العام».

الـ«غارديان» التي بدأت الحملة بنشر تفاصيل تنصت صحافيين من «نيوز أوف ذي وورلد» (وليس الـ200 صحافي الذين فقدوا وظائفهم بإغلاق الصحيفة.. وقبل سنوات) لها خصومتان مع مردوخ..

الخصومة الآيديولوجية بعداء اليسار (الذي يفضل اقتصاد القطاع العام وسيطرة الدولة) لرجال أعمال كمردوخ يمثلون الاستثمار الرأسمالي والمخاطرة من أجل التنمية برأسماله الخاص. مثلا راهن مردوخ في نهاية الثمانينات بكل ما يملك على إطلاق قمر صناعي أوروبي بعد رفض جميع شركات التأمين ضمان التجربة. وبعد خسارة ملايين في انفجار الصاروخ الأول، أطلق القمر الثاني فمكن شبكة «سكاي» من البث، ليخلق أكثر من 20 ألف وظيفة في إنجلترا..

الخصومة الثانية تتعلق بالتوزيع التجاري للإضرار بـ«التايمز» العريقة، وهي المنافس الأول للـ«غارديان» بعد تدهور الـ«إندبندنت».

والسؤال الذي لم يجب عنه رئيس تحرير الـ«غارديان» الذي لم يختف من أي من برامج الـ«بي بي سي» في الحملة: إذا كان التجسس على التليفونات والمراسلات عملا غير أخلاقي، فلماذا نشرت الـ«غارديان» تسريبات «ويكيليكس» التي حصل عليها جوليان أسانج بأسلوب السرقة (غير الأخلاقي في تعريف الـ«غارديان»)؟

مردوخ قد «يزهق» من تصوير اليسار والـ«بي بي سي» له كـ«عدو الناس»، فيبيع الـ«تايمز» والـ«صنداي تايمز» الصحيفتين الأشهر في بريطانيا غير الرابحتين، واللتين تدعمهما مجموعته؛ أي يحتمل إغلاقهما، ولذا فانتصار اليسار سيكون خسارة فادحة للديمقراطية.