ليس كل ما عندهم.. حسنا!

TT

لم تظهر بوضوح على شاشة الإعلام العربي قصة روبرت مردوخ والفساد السياسي في عالم الإعلام الغربي، التي شكلت القصة الرئيسية في بريطانيا. هذا الأسبوع، كان معظم العرب مشغولين بعدد القتلى في سوريا، ومتى يترك معمر القذافي الكرسي الذي يدعي أنه لم يجلس عليه، وما هي تطورات اعتصامات ميدان التحرير في القاهرة.

إلا أن قصة توقف جريدة «نيوز أوف ذي وورلد» - وقد حصلت على نسخة من عددها الأخير و«التاريخي»، الأحد الماضي، قبيل مغادرتي لندن، وهو عدد قد يعود إليه المؤرخون المعنيون بدراسة مدرسة الإثارة الصحافية - تحكي الفساد السياسي بحروف كبيرة. فبعد 168 عاما من الصدور المنتظم تختفي أكبر صحيفة أسبوعية شعبية، يدعي ناشروها أنها توزع ما بين 5 و7 ملايين من النسخ لكل عدد، تقرأها الطبقة المتوسطة كل صباح يوم الأحد، في معظم مدن وقرى بريطانيا.

الصحيفة عاصرت في زمانها الممتد 6 من ملوك وملكات بريطانيا، وعشرات من رؤساء الوزارات، وشهدت حربين عالميتين؛ فقد صدر العدد الأول منها في القرن قبل الماضي عام 1843. وعند الاطلاع على نسخها الأولى تبدو اليوم وكأنها تصدر في كوكب آخر عن زماننا، فقد كانت ذات 6 أعمدة، ثلاثة منها على اليمين للإعلانات المبوبة، واثنان في الوسط للسياسة، وآخر على الشمال، تصور لماذا؟ خُصص ذلك العمود للنكت! لقد وثقت هذه الصحيفة حتى في كتب المشاهير، فذكرها المؤلف ذاع الصيت جورج أورويل في مطلع أحد كتبه!

عدد من الدروس يمكن استنباطه من هذه الفضيحة السياسية الكبرى، فقد كان رئيس تحرير الصحيفة السابق، أندي كولسن، وبعد أن ظهرت جزئيا قصة تجاوزها للمسموح من العمل الصحافي، استقال من وظيفته كرئيس تحرير، ولكنه وُظِف في مكتب رئيس الوزراء البريطاني للإشراف على المكتب الإعلامي، الأمر الذي جعله يستقيل مرة أخرى من إدارة المكتب في يناير (كانون الثاني) الماضي، عند ظهور معلومات أكثر تبين تورط الصحيفة والعاملين في قيادتها في أعمال غير أخلاقية.

الصحافية ربيكا بروكس، رئيسة التحرير التي انتهت بها الصحيفة في الأسبوع الماضي، ذات الشعر الأشقر المشوش، صديقة شخصية لعائلة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، بجانب صداقاتها مع الناشر، إمبراطور الإعلام، روبرت مردوخ، بل وتذهب الصحافة البريطانية للقول إن روبرت مردوخ نفسه، صاحب الإمبراطورية الإعلامية الهائلة على مساحة العالم، هو (جوازا) الوزير غير المعين في الوزارة البريطانية، للتدليل على كثافة تأثيره في السياسات العامة.

هناك تشابك مرضي خلقته ديناميكيات الممارسة الديمقراطية في العالم المتقدم، وبريطانيا مثال على ذلك. في الوقت الذي يحاول فيه السياسيون إرضاء خاطر الإعلام بسبب تأثيره على الناخبين، وبسبب عدد المشاهدين والقراء الضخم الذي يعمل على إقناعهم يوميا، يحاول السياسي أن يتقرب من الإعلامي، خاصة صاحب المؤسسة، فتتبادل هنا المصالح المباشرة أو غير المباشرة: أدعو إلى تأييدك وإظهار محاسن سياستك، وأنت تقدم لي الامتيازات المالية والمصلحية الأخرى. تبادل منافع على حساب المواطن المغرر به، وعلى حساب المصالح العامة، والدائرة الجهنمية تتوسع، فمن أجل قراء ومشاهدين أكثر، تبحث وسائل الإعلام بشكل قانوني، أو غير قانوني، عن الفضائح التي يقبل عليها القراء والمشاهدون، وفي الطريق تُنتهك المحارم ويُكسر القانون، وتُزف الأخلاق المهنية إلى قبرها، حتى تتوسع الدائرة، فيسقط فيها الجميع.

لقد قامت صحيفة «نيوز أوف ذي وورلد» بالتنصت على مكالمات تلفونية لما لا يقل عن 400 من المشاهير وأصحاب القضايا التي يهتم بها الرأي العام، حسب أكثر المعلومات دقة، بل وحتى أفراد من الأسرة المالكة البريطانية لم ينجوا من ذلك، وكذلك عائلات ضحايا الحروب في العراق وأفغانستان، وفوق ذلك هي متهمة بتقديم رشوة إلى عدد من ضباط الشرطة للحصول على معلومات لقضايا تحت التحقيق، بل وفتح الملف باتجاه ضحايا اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 في الولايات المتحدة، جراء شكوك في أن بعض وسائل الإعلام المملوكة لشركة روبرت مردوخ والعاملة هناك، قد تكون تورطت في التنصت على محادثات خاصة لعائلات ضحايا الكارثة.

في صيغة لا تخلو من التهكم، ودّع مسؤولو الصحيفة قراءهم في العدد الأخير بالقول: «عشنا من خلال التاريخ، وسجلنا التاريخ، وأخيرا صنعنا التاريخ»، في الإشارة الأخيرة إلى إقفال الصحيفة. لقد كانت مدرسة «نيوز أوف ذي وورلد» هي المدرسة الشعبية الباحثة عن الإثارة، ولا تختلف عن زميلتها صحيفة الـ«صن» اليومية، إلا أنها حشدت الرأي العام، خاصة البريطاني، وراء الكثير من القضايا، بعضها لم يكن خاليا من الغرض، فقد تنكّر أحد محرريها - في أجواء العداء للعرب عند ارتفاع أسعار النفط في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي - في زي ثري عربي، واستطاع أن يدخل على عدد من البيوت البريطانية التقليدية النبيلة، التي رحبت به كمصدر محتمل للثراء السريع، وكانت فضائح، سُرّ بها القارئ البريطاني، انتقاما معنويا من ذوي الأنوف العالية والمفلسة من تلك العائلات في مجتمعهم، وأيضا من الشخصية العربية التي صورت على أنها ذات ثراء وجهل في آن!

القصة لم تنتهِ بانتهاء اختفاء الصحيفة التاريخي، هناك ذيول سياسية لها سوف تتبع، فقد ظهرت مطالب في الصفوف السياسية في بريطانيا بالتشديد في قوانين الرقابة على الصحافة، كما ظهرت أصوات تتهم لجنة مراقبة وسائل الإعلام، التي تنظم العمل الإعلامي، بالتقصير. وإن عرفنا أن الإعلام في بريطانيا يحدد رقابته ذاتيا، نعرف أيضا أن هناك معركة سوف تندلع بين من يطالب بحرية الإعلام ومن يطالب بتقييده، كما سوف تفتح على نطاق أوسع ملفات ما عُرف بصحافة دفتر الشيكات! وهي شبه منتشرة في وسائل الإعلام الشعبية بحثا عن الإثارة، بل قد تطال رؤوسا في الحزب الحاكم.

لا بد من التنويه بأن عمليات التنصت غير القانونية وعمليات الفساد والعلاقة الملتبسة بين الصحافي والسياسي، كلها كانت السبب في كشفها جريدة أخرى هي الـ«غارديان» ذات الميول اليسارية، التي التزمت بالقواعد المهنية، فقررت كشف المستور، حتى من أهل المهنة الواحدة.

النقص في المهنية الإعلامية هو بيت القصيد، ففي الفضاء المفتوح اليوم عالميا، لم يعد السؤال: هل هناك حرية للإعلام أم لا؟ السؤال المركزي المطروح في العالم المتقدم والنامي على السواء؛ هل هناك مهنية صارمة في التعامل الإعلامي، أم ستظل معرفة الحقيقة المجردة مرهونة بتشابك المصالح بين السياسيين وأصحاب المؤسسات الإعلامية؟ أو بين المال والسياسة؟ إنه سؤال مطروح علينا، نحن العرب، في ضوء هذا الحراك الكبير من حولنا وما سوف ينتج عنه من دور لوسائل الإعلام.

آخر الكلام:

في إحصائية لافتة بأرقامها، أن هناك 90 جهاز هاتف جوال لكل 100 شخص في الولايات المتحدة، وأيضا 140 في عمان، و177 في البحرين، و95 في تونس و149 في ليبيا و87 في مصر! هل تعني لكم هذه الإحصائية شيئا؟!