بالعربي: تعا ودعوا!

TT

مشهد طبيعي ومألوف، ذلك الذي يراه السوريون في بلادهم لرجل يدفع بعربة خضار أو فاكهة أو سيدة تبسط الخضرة والفاكهة على قارعة الطريق، وكلاهما يصيحان بصوتيهما «تعا ودعوا تعا ودعوا» بمعنى تعالوا لتوديع آخر أيام المنتج الزراعي الذي نفد موسمه. تذكرت ذلك المشهد وأنا أراقب لقاء الرئيس السوري بشار الأسد مع الأمين العام لجامعة الدول العربية الجديد نبيل العربي الذي خرج بعد الاجتماع ليصرح بأن لا أحد له الحق في إسقاط الشرعية عن زعيم عربي وأنه اطلع على المشروع الإصلاحي للرئيس السوري.

الحقيقة أن هذا التصريح كان بمثابة تأكيد مجددا على نهاية صلاحية هذه المنظمة ودور أمينها العام البائس، فلا أعرف من أقنع نبيل العربي بتصريحه هذا؟ العالم الذي صرح يمينا ويسارا بإدانة مجازر النظام السوري بحق شعبه والإصرار عليه بضرورة الإصلاحات، أم الشارع السوري الذي انتفض في كل مدنه وقراه محتجا على نظام غير آدمي حكمه بالحديد والنار لمدة أربعة عقود كان نتاجها الذل والمهانة والفساد والظلم؟ الشارع السوري نفسه - إذا كان نبيل العربي لا يتذكر - هو الذي سحب الشرعية من النظام السوري الذي يحكمه ولم ينتظر أميركا ولا فرنسا حتما ولا العرب أن يشاركوه في هذا الرأي.

في الثمانينات الميلادية من القرن الماضي، زار الرئيس الراحل حافظ الأسد السعودية بعد فترة قليلة من قيام نظامه بمذبحة حماه المهولة التي راح ضحيتها 45 ألف إنسان، ودمرت المدينة ودكت بعض أحيائها وأشهرها حي الكيلانية حتى سوي بالأرض تماما، وبعد اللقاء الرسمي مع القادة السعوديين قابل حافظ الأسد الصحافيين كما هي العادة في مثل هذا النوع من المناسبات الرسمية. وكان من ضمن الحضور الصحافي رضا لاري رئيس تحرير صحيفة «عكاظ»، التي كان والدي مديرا عاما لها وقتها، وسأل الرئيس السوري سؤالا قال فيه: «ماذا فعلت بأهل حماه؟»، واصفر وجه الرئيس السوري وقطب جبينه ومن ثم احمرت عيناه غضبا، ونظر إلى معاونيه الذين هرعوا لفتح الطريق له وغادر مسرعا دون أن يجيب على السؤال. وكانت هذه أول مرة يطرح سؤال مباشر لحافظ الأسد عن مذبحة حماه، وأتذكر ما حدث بعدها من «اتصالات» للوالد وللأستاذ رضا لاري تطلب منهم بحزم عدم التطرق لموضوع سؤال حماه بشكل لا يقبل النقاش؛ لأن الرئيس السوري اشتكى للمسؤولين السعوديين بما حصل، وطبعا لم تنشر الواقعة.

ولكن اليوم زمن غير الزمن الذي ولى، ولم يعد من الممكن السكوت عن نظام فاشي ستاليني كرس عبادة الحاكم وتأليهه وعبودية المحكوم وتحقيره، ولا يمكن أن تكون مشروعية نصرة «الأخ» الأفغاني والبوسني والشيشاني والداغستاني والكشميري والكوسوفي حلالا ونصرة «الأخ» السوري محل شك وخجل ورياء وجدل.

أميركا عن طريق وزيرة خارجيتها ورئيس جمهوريتها، نطقت أخيرا وأقرت بأن بشار الأسد فقد شرعيته، وكنت أستغرب ما الذي أطال انتظارهما على إعلان ذلك، بينما قالا تعليقا شبيها في حق الرئيس التونسي بن علي والرئيس المصري مبارك في فترة أقل بكثير، فاسترجعت مسألة مهمة جدا أنه منذ ما يقارب العام اتفقت الحكومة السورية مع توم واين - الرئيس السابق لمدة 13 عاما لمنظمة «آيباك» الذراع الأقوى للوبي الإسرائيلي مع الحكومة الأميركية وهو يعمل الآن بوظيفة مستشار لـ«منتدى سياسة إسرائيل» ومقره نيويورك - اتفقت معه على مهمة تحسين الصورة مع الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة أوباما، وبدأت هذه السياسة تؤتي ثمارها بإعادة السفير الأميركي لدمشق بعد فترة غياب طويلة وتمت إعادته بطريقة استثنائية، تم فيها تجاوز مراسم التثبيت من مجلس الكونغرس وكذلك تم إبعاد اسم سوريا من مسألة المحكمة الدولية، وبدأت وفود من شركات تقنية ومصارف استثمارية كبرى تزور سوريا. وكان هناك تجهيز لإطلاق صندوق استثماري باسم سوريا أيضا. وبعدها جاءت زيارة مالكوم هونلاين لدمشق، وهو نائب الرئيس التنفيذي لمؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأميركية الكبرى التي تضم في عضويتها 52 منظمة معروفة بالولاء لإسرائيل من ضمنها «أصدقاء الليكود الأميركيون» و«آيباك» و«أبناء صهيون» و«منظمة أميركا الصهيونية»، وكذلك رافقه رجل أعمال أميركي يهودي من أصول سورية. وتم التفاهم على أن يسمح بترميم عشرة معابد يهودية موجودة بسوريا في دمشق وحلب والقامشلي، وتأجيل ملف استعادة الجولان، وتقديم دعم مالي بملايين الدولارات لهذه المنظمات اليهودية مقابل عدم زج اسم سوريا في ملف المحكمة الدولية وتحسين صورتها مع الإدارة الأميركية سياسيا واقتصاديا.

وتلا ذلك زيارة جون كيري السيناتور الأميركي المخضرم والمسؤول عن ملف العلاقات الخارجية بالكونغرس الأميركي إلى دمشق ومقابلته بشار الأسد. وكان كل هؤلاء قد قابلوا - قبل وصولهم إلى دمشق - مندوبين من الحكومة السورية ليرتبوا كل ذلك، وهم الاقتصادي سامر سيفان والمحلل السياسي سامي مبيض والمسؤول عن مركز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية سمير التقي. ولكن انفجار الثورة الشعبية واستمرارها للشهر الرابع وازدياد أعدادها في كل مكان واستمرار النظام في القتل والقمع وعدم تنفيذه لوعوده التي أعلنها بالإصلاح، أسقط في يد الإدارة الأميركية خيارات الصبر عليه وصرحوا بما قالوا.

الشعوب العربية نفسها باتت تكره النظام السوري، ولن أتحدث عن الحكومات، فدول الخليج لا يوجد فيها من لم يعلمه سوري في المدارس أو يعالجه طبيب سوري أو يشارك ويعمل ويتاجر مع سوري، ناهيك عن علاقات المصاهرة والصداقة. والأمر أكثر من ذلك بالنسبة للعراقي واللبناني والأردني المرتبطين جميعا بعلاقات عشيرة ودم وأخوة، ومصر التي كانت مع سوريا دولة واحدة لسنوات طويلة جميع المصريين يتعاطفون مع الشعب وليس مع النظام الدموي. حتى الليبيون لن يغفروا جريمة إرسال 29 طيارا سوريا لدعم القذافي في بداية ثورة ليبيا على حكم الطاغية القذافي. ولم يجد الأسد من حليف له يستعين به صوتا وعتادا إلا حزب الله الذي أرسل محاسيبه وأنصاره ليمارسوا «مقاومة» على شعب ثائر ضد نظام وحشي همجي، وهناك أخبار أن مقتدي الصدر أرسل بعض أنصاره لنفس الغرض أيضا.

أي سكوت أو دعم للنظام في سوريا اليوم هو مشاركة في الجريمة، فلا مساومة على الدم أبدا. ومع الأسف هناك خبر بغيض و«مقرف» أن دولة عربية قدمت مبلغ 30 مليون دولار كدعم للنظام السوري في هذه الظروف. وحقيقة لا أجد أي فرق بين هذه المسألة وبين الدعم المالي المقدم من أميركا لإسرائيل، فكلاهما يساهمان مباشرة وعمليا في إهدار وإراقة الدم العربي. الوقوف مع الشعب السوري لم يعد مجرد رأي سياسي ولكن مسألة أخلاق في المقام الأول، والسيد نبيل العربي عليه أن يعرف أن الثورة التي جاءت به إلى المنصب الحالي في مصر هي نفس روحها التي ستصل إلى سوريا، وكان عليه أن يدرك أن سنن التغيير الكبرى وإرادة الشعوب الحرة لا تؤخرها التصريحات البائسة هذه.

[email protected]