يا ثوار.. تعالوا نزرع حديقتنا

TT

بمجرد أن استمعت إلى جملته سارعت على الفور إلى كتابتها خشية أن أنسى ترتيب الكلمات فيها فتفقد إيقاعاتها القوية ودلالتها، كان الشاب يتحدث في ميدان التحرير مع مقدمة البرنامج التي كانت تسأله عن أسباب تجمعهم في الميدان في جمعة الثورة أولا، وأجاب الشاب الإجابات المعروفة والمشهورة عن تباطؤ الحكومة والمجلس العسكري في تنفيذ هذه المطالب، غير أنه أنهى حديثه بصدق شديد وهو يقول: عندنا رغبات ثورية لم يتم إشباعها.

الشاب هنا يعلن ما لم يعلنه أحد من قبل، هو لم يتكلم عن مطالب، بل عن رغبات، أي إنه في لحظة صدق مع النفس تخطى حاجز الوعي ليعلن ببساطة مقدار الجوع الذي يعانيه اللاوعي ورغبته القوية في الإحساس بالشبع. ندرك بسهولة أنه طالما ظل هذا اللاوعي محروما من الإشباع فلن تتوقف المظاهرات ولن تتوقف المطالب. وعلى الرغم من أنني أتفق معه في التشخيص بوجه عام، غير أني ميّال أكثر لاستخدام المصطلحات كما يعرفها التحليل النفسي، اللاوعي يعرف فقط الغرائز الباحثة عن الإشباع غير أنه لا يعرف ما يسمى بـ«الرغبات الثورية»، هو يعرف فقط الإحساس بالرغبة في التمرد على السلطة الوالدية، وهو تمرد صحي وحتمي من أجل تحقق الإنسان الفرد، غير أنه لا بد من ملاحظة أن هذا التمرد يقوده الوعي بلطف ورقة لأن الهدف منه أصلا ليس العدوان على السلطة الوالدية، بل الاستقلال عنها، الهدف هو أن تخرج من جلباب أبيك وليس تمزيقه. غير أن الشاب بحديثه عن الإشباع المفقود، يكون بذلك قد دخل في حقل جديد من حقول التحليل النفسي هو عنصر اللذة (راجع ما وراء مبدأ اللذة لفرويد) بالتأكيد نحن نبحث عن الشبع لما يحدثه ذلك فينا أو يسببه لنا من لذة. هناك ميل (tendency) غريزي داخل العقل يدفع الإنسان بقوة للحصول على اللذة من خلال التكرار، إنه جبر التكرار (to repeat the compulsion) هو مبدأ قوي للغاية داخل العقل غير أنه فاقد للسيادة على النشاط البشري وإلا كانت كل أفعالنا تؤدي إلى إحساسنا باللذة أو مؤدية إليها، وهو فاقد للسيادة أيضا على أفعالنا لأنه مواجه ومعاكس بغريزة الموت التي تحد من نشاطه بل ربما تتغلب على هذا المبدأ لشدة ضعفه، فتستولي عليه كلية وتمارس وظيفته وهو ما يحدث عند المتطرف الانتحاري الذي يشعر أن لذته الوحيدة هي أن يموت.

المهم في هذه الحكاية وما أريد أن أوصله إليك أن جبر التكرار مصدر للذة وخاصة عندما يتيح لك ممارسة الهجوم على كل الحصون الاجتماعية واختراقها ورفع علمك عليها، مسلحا برغبتك القوية في الحصول على حريتك ومسلحا أيضا بكل قواك الغريزية القادمة من اللاوعي. في الورشة، في الدكان، في المصنع، في المكتب، في الشركة، في البيت، في الشارع، في الحقل، في أي مكان على وجه الأرض، أنت مجرد إنسان ضعيف مثلنا جميعا في مواجهة كل مؤسسات المجتمع وقواه. أما في الميدان فأنت أقوى الأقوياء. العالم كله ينتظر كلمة أو حركة منك، لكي يمشي في الاتجاه الذي تريده أنت. أنت الإنسان الذي كان يريد أن يكونه نيتشه وأقوى غرائزك قد تحققت بالفعل وهي إرادة القوة (The will to power) من المصطلحات الشائعة في مصر أن «فلانا راجل بألف راجل» تعبيرا عن القوة والصلابة، ألف رجل فقط؟ يا له من إنسان ضعيف، القوة الآن - وبالتالي عنصر اللذة - تتطلب أن تكون مليونا من الرجال والنساء.

ليكن واضحا أنني لا أناقش ما يحدث في مصر الآن من وجهة نظر الوعي فهذا هو ميدان المشتغلين بالسياسة والتحليل السياسي، أي إنني لا أناقش مطالب الثوار أو أناقش شرعيتها، أو تأثيرها السياسي أو الاقتصادي على المجتمع المصري، بل أغوص في اللاوعي الجمعي باحثا عن الدوافع الغريزية الكامنة وراء مطالب هذا الوعي. سأترك للآخرين الإجابة عن السؤال الشهير هذه الأيام وهو «مصر إلى أين؟» وأحاول الإجابة عن نفس السؤال بالمنهج الذي أثق به في الحياة بوجه عام، وهو محاولة التعرف على آليات اللاوعي ورغباته. وحتى الآن أستطيع أن أقول، إلى أن يحصل المصريون على برلمان منتخب ورئيس منتخب وحكومة يشكلها هذا البرلمان بغض النظر عن توجهاتها السياسية، فستستمر المليونيات والاعتصامات. وإذا قيل لي: أنت تتعامل مع لا وعي الجماعة وكأن آلياته هي نفس آليات وعي الإنسان الفرد.

أرد: نعم.. هذا هو بالضبط ما أفعله، فرويد أيضا يرى ذلك.

في رواية «كانديد» لفولتير، يلاقي أبطالها كل ما على الأرض من مصاعب وأهوال، بطل الرواية نفسه يموت عدة مرات، وفي نهاية الأمر، وفي السطر الأخير من الرواية يقول كانديد لمن تبقى من جماعته وأسرته: تعالوا نزرع حديقتنا.

بعد مشوار حياتي أستطيع أن أقول، هذا هو بالفعل المطلوب من الإنسان، في مواجهة كل أخطار الدنيا وتعقيداتها على الإنسان أن يلجأ لأبسط الأشياء، أن يزرع حديقته. لذلك علينا أن نتحمل بصبر وقوة الأيام التي تفصلنا عن الانتخابات وأن ننتهز الفرصة للتفكير في مراحل الحياة المقبلة في مصر. أنا أكره النصائح، غير أني أنصح بعض الشبان من قيادات الثوار بألا يقلدونا في التعامل مع الواقع، كثيرون منا كانوا يرون أن السياسة فرع من فروع الكذب والنذالة، لم يكن الكذب مؤثما في مصر، ابتعدوا عن تقليدنا في هذا المجال، لقد أغلقت جماعة ما أو ائتلاف ما مجمع التحرير لعدة أيام، غير أني استمعت لأحد زعمائكم يقول: لم يحدث أن أغلقنا المجمع ومنعنا الناس من الدخول، كانت هناك جماعة من البلطجية تريد الدخول فمنعناهم.

بعد ذلك قرأنا لافتة معلقة على باب المجمع تقول: تم فتح المجمّع بأمر الثورة.

أي إنه كان مغلقا بأمر الثورة أيضا، وتذكرت واقعة الجمل، قال أحد المسؤولين أيامها: لم يحدث أن هؤلاء جاءوا للعدوان على أحد.. لقد جاءوا بالخيل والجمال ليلفتوا الأنظار إلى أن السياحة في منطقة الأهرامات تأثرت بالمظاهرات.

من الضروري أن نتعامل مع الأيام التي نمر بها الآن بوصفها مرحلة تدريب ضرورية على الصدق مع النفس ومع العالم، إنها فرصة الإعلام في مصر للتدريب على تجنب العبط والكذب والبلاهة، قرأت خبرا بالخط العريض يعلن القبض على جاسوس يصور مواقع عسكرية من فوق كوبري أكتوبر، لماذا لا تنتظرون النيابة إلى أن تقول لكم إنه جاسوس؟