العرقنة.. اللبننة.. وتحولات المنطقة

TT

في السنوات الماضية، لا سيما منذ التغيير الاستثنائي الذي حدث في العراق، برز في الخطاب السياسي والإعلامي في المنطقة مفهوم «العرقنة»، الذي قصدت منه الإشارة إلى «خطورة» التحول السياسي الذي قد يؤدي إلى تفتيت المجتمع وصعود الانقسامات الداخلية بشكل واضح، بل وتحولها إلى شكل من أشكال العنف غير المقيد. قبل ذلك كان مصطلح «اللبننة» واسع الانتشار وينتمي إلى تراث الحرب الأهلية اللبنانية؛ حيث أدى فشل نظام التوافق الطائفي إلى انهيار الدولة بأكملها ولجوء الجماعات الطائفية إلى الصراع العنيف الذي كان أيضا ممرا لصدام الأجندات الإقليمية والدولية المتنافسة. في كلتا الحالتين (العرقنة واللبننة) نحن أمام مشهد بثلاثة عناصر، أولا: انقسام اجتماعي حاد مترافق مع ضعف أو إضعاف الهوية الوطنية الجامعة بسبب خلل كامن في أصل وجود الدولة – الوطنية لم يتم حله عبر نظام سياسي استيعابي، ثانيا: غياب للزعامة الاستبدادية التقليدية القائمة على احتكار الزعيم الأوحد وعائلته للسلطة، وثالثا: نفوذ الصراع الجيوسياسي الإقليمي والدولي إلى الجسم المحلي، وبالتالي تشابك أجندات السياسة الداخلية وبناء الدولة بأجندات التنافس الخارجي.

لكننا اليوم، في ظل المخاض الراهن الذي أطلقه سقوط بعض الديكتاتوريات الإقليمية، وتنامي الاحتجاجات الشعبية ضد ديكتاتوريات أخرى فيما يسميه البعض، تلطيفا، الربيع العربي، ربما نتجه نحو حالة يصبح فيها مفهوما «العرقنة» و«اللبننة» في موضوع التساؤل. بمعنى آخر: إننا أمام أوضاع ستختبر ما إذا كان العراق ولبنان حالتين شاذتين أم أنهما يجسدان بدرجات متفاوتة وضعا سنرى شبيها له في كل بلد عربي يدخل مرحلة التحول.

أول ما يكتشفه الجميع الآن هو أن الربيع العربي ليس مليئا بالزهور، بل هو مليء بالأشواك. لقد بدأنا نرى أن المواصفات الثلاث السابقة يمكن أن تظهر في جميع البلدان التي جرى أو سيجري بها التغيير، فالزعيم الأوحد الذي تلهج الجماهير باسمه ليلا ونهارا ويتغنى الشعراء بحكمته وبصيرته وخصاله وتتدفق أخباره وخطاباته وتصريحاته عبر القنوات والاذاعات الرسمية، هذا الزعيم ماعاد قابلا للوجود لأنه ينتمي إلى عصر آخر غير عصر الإنترنت والفضائيات. لقد بات بإمكان الناس أن يختاروا وسيلة إعلامهم ولم يعد بإمكان القنوات والاذاعات والصحف الرسمية المتكلسة أن تحجر على عقولهم أو تقطع صلتهم وتواصلهم مع العالم الخارجي. لقد جذب الاحتجاج اعدادا غفيرة من الشباب لانهم من بين القطاعات الاجتماعية كانوا الأكثر اطلاعا على العالم الخارجي ولم يعد بإمكانهم قبول فكرة الاب أو الاخ القائد الذي بمزاجه ترتبط مصائرهم.

الأمر الثاني هو الانقسام الاجتماعي، فمع انهيار فكرة القيادة الواحدة والوحيدة، وإمكانية اختزال الوطن والمجتمع باكمله بخطاب رسمي متكلس منقطع عن الواقع، تندفع إلى السطح الانقسامات والاختلافات الداخلية. لايوجد مجتمع من دون اختلاف، فقط الأنظمة الشمولية التي تريد اختزال هذا المجتمع بها هي من يدعي ذلك. لزمن طويل اصرت تلك الأنظمة على انكار الاختلاف، أو على تضييق حدوده ليصبح مقصورا على تفاصيل داخلية وليس مسائل مصيرية، وهي ظلت تعتبر شعوبها غير مؤهلة للتعامل مع القضايا الكبرى، ولهذا السبب، فإن لدينا مجتمعات لم تعتد معظم أجيالها على «تداول الاختلافات»، على التعاطي معها بوصفها ظواهر إنسانية طبيعية تمثل انعكاسا لتغير الظروف والتحديات والامال. عدم الاعتياد هذا هو الذي يدفع بعض الجماعات على اللجوء لممارسة العنف ضد الآخر المختلف، والعنف يمهد الطريق ليس لكبت الاختلاف بل لترصينه وتحويله إلى انقسام اجتماعي مزمن. ما بالك أن كان هذا الانقسام موجودا منذ الزمن الديكتاتوري، ومقترنا باختلاف الهويات الدينية أو الاثنية أو الطائفية أو القبلية، سيؤدي الفشل في التعامل معه عبر منطق استيعابي، وغياب قنوات لبناء الثقة الاجتماعية تحفظ التماسك الاجتماعي حول أهداف رئيسية، إلى سبب لأن تغدو تلك الانقسامات اعمق مما هي عليه في الحقيقة، وتحولها بالتالي إلى خطوط استقطابية تشرخ البناء الاجتماعي وتضع مصير البلد كله في موضع الشك. في السودان مثلا، أول استفتاء حقيقي لسكان الجنوب حول مصيرهم افضى إلى تقسيم البلد بعد زمن طويل من الوحدة المفتعلة، وفي ليبيا اليوم نرى مظاهر الانقسام الاجتماعي التي لا يمكن أن تخفيها اللغة الإعلامية التخفيفية القائمة على ثنائية الثوار – كتائب القذافي. في مصر تطفو مجددا قضية الانقسام الإسلامي – المسيحي والقابلة للتفاعل خصوصا إذا ماتحولت اداة للتحشيد الانتخابي ولتعبئة الجمهور وراء الهويات.

يبقى العامل الخارجي وهو في جميع الحالات فاعل ومؤثر، هنالك سباق دولي على محاولة التأثير في صياغة النظم السياسية الجديدة وفي مسار المرحلة الانتقالية، قضية العلاقات مع إسرائيل والغرب بدأت تدخل إلى حيز النقاش السياسي المصري والتونسي، وفي سوريا فإن الصراع بين معسكري الممانعة والاعتدال يؤثر ويتأثر بمجرى الأحداث، وليبيا باتت قضيتها مدولة بامتياز حيث الناتو دخل كشريك رئيسي في تقرير مصير البلد، وفي اليمن تلعب الوساطات الخارجية دورا رئيسيا في توجيه مسار الأحداث. وكل هذه الأمور تمثل ما يطفو على السطح، أما ما يجري خلف الكواليس، الأموال التي تنفق والجماعات التي تشكل والقوى السياسية التي تباع أو تشترى، فهي أمور ستتكشف تدريجيا.

مع هذا الخليط الذي نراه وبأشكال مختلفة في كل بلد عربي شهد أو يشهد تحولا، يبدو مشروعا التساؤل ما إذا كان العراق ولبنان يمثلان شذوذا أم قاعدة. في معظم الحالات سنرى عملية التحول تطول لزمن وتواجه تحديات ونكوصات. ويبدو من الخطأ أن يبني البعض تحليلاته وتوقعاته على أساس من سيأتي ليحكم لاحقا، هذا تبسيط للأمور، ذلك أن من سيأتي لن يأتي لوحده، وهو لن يحكم لوحده، مظاهر الانقسام العميقة والصراعات الاجتماعية المكبوتة كلها تطفو للسطح ومعها الاجندات الخارجية، مئات الأحزاب والحركات ستظهر على وقع ذلك، وفي أغلب هذه الحالات ستكون هنالك حاجة لتشكيل ائتلاف حاكم كبير وواسع لايقصي تيارات مهمة، الأمر الذي سيعني نقلا للاختلافات إلى الجسد الحكومي. ما نراه اليوم هو لحظة في مرحلة الهدم، البناء لم يبدأ بعد، ونفق الانتقال طويل وعلى وقعه ربما سيكون بإمكاننا أن نصل إلى جواب حول سؤال المقالة: هل العراق ولبنان مختلفان أم أنهما صورة لواقع المنطقة المقبل؟