العالم الإسلامي.. بين واقعية «التعاون» ومثالية «المؤتمر»

TT

ما بين سبتمبر (أيلول) عام 1969، ويونيو (حزيران) من العام الحالي، وهي فترة بزوغ نجم منظمة المؤتمر الإسلامي ووجودها كمنظمة إقليمية كبرى، شهد العالم الإسلامي متغيرات كثيرة خلال تلك المدة الزمنية التي اقتربت من 43 عاما، وكانت البداية مع انطلاق المنظمة في مؤتمر الرباط إثر حريق المسجد الأقصى الشهير، حيث تمخض عن هذا المؤتمر تدشين المنظمة التي شاركت في تأسيسها 25 دولة إسلامية، وبعد مسيرة طويلة وفي نهاية يونيو الماضي تغير شعار المنظمة وأصبح خلال اجتماعات المجلس الوزاري للمنظمة الذي عقد في أستانة عاصمة كازاخستان «منظمة التعاون الإسلامي»، ليحل «التعاون» بدلا من «المؤتمر»، أي الاقتراب من احتياجات الشعوب بدلا من الطموحات المثالية التي ظلت تداعب أحلام السياسة ردحا من الزمن، مما يعني أن المنظمة الأكبر إقليميا والثانية عالميا والتي تضم في عضويتها 57 دولة يقطنها في حدود المليار ونصف المليار مسلم وتمتلك أكثر من 70 في المائة من الموارد الطبيعية العالمية، أخذت تنحو منحى بالواقعية والدخول إلى مضمار البناء والتعاون الذي يظل الأهم إن لم يكن حجر الزاوية في العصر الحديث.

قد يرى البعض أنه لا فرق بين «المؤتمر» و«التعاون» قياسا بنتائج العقود الأربعة الماضية، فيما يرى البعض الآخر أن «التعاون» بداية الطريق إلى تحقيق الطموحات التي ظلت تراود أبناء الدول الإسلامية سنوات طويلة، وترجمة القرارات التي صدرت على مدار 40 سنة ونيف إلى الواقع، خاصة أن ظروف العصر الحالي تؤكد أنه لا قدرة على التعامل مع بقية التكتلات الكبرى في العالم إلا من خلال كيانات كبيرة واقتصادات عملاقة وتكتلات تكاملية تفرض نفسها في ظل العولمة التي لا تعترف بالضعفاء.

السؤال المطروح الآن هو: كيف يمكن تحقيق التعاون بين الدول الإسلامية؟ الإجابة تكمن في إرادة الدول الأعضاء فقط لا غير وصدق رغبتها في التعاون الذي ستجني ثماره جميع هذه الدول دون استثناء، على أن تكون هذه الرغبة صادقة وتضع المصلحة العليا للأمة فوق الاعتبارات المذهبية والطائفية أو الخلافات السياسية أو المصالح الضيقة التي شتتت جهد الأمة خلال العديد من العقود الماضية.

منظمة التعاون الإسلامي بمسماها القديم أصدرت مئات القرارات خلال 11 اجتماعا على مستوى القمة، و46 اجتماعا عاديا وطارئا لوزراء الخارجية، و14 اجتماعا لوزراء الثقافة والإعلام، والعديد من الاجتماعات النوعية والمتخصصة، جميعها لم تنجح في تحقيق الحد الأدنى من المستوى المطلوب للتعاون، بل لم تساعد على تقليل حالة التفكك، أو حتى إيقاف الحملات الإعلامية التي تشنها دول إسلامية ضد أخرى والتي تنهش في جسد الأمة، والأمر لم يتوقف عند ذلك بل وصل إلى حد التناحر وزرع العملاء وإيقاظ الفتن ومحاولات التدخل في شؤون بعض الدول.

رغم هذا الانكفاء الإسلامي، والوقوف في موقف الدفاع عن النفس ضد الاتهامات العالمية ضد المسلمين الذين تدمغهم بالإرهاب وإساءة حقوق الإنسان والتخلف، يظل الأمل قائما في نهضة الأمة واستعادة دورها التاريخي استنادا إلى الإرث الحضاري الضخم للعالم الإسلامي، وسلامة توجه وسياسات الكثير من دوله في الوقت الحالي، بل توجد دول إسلامية بلغت شأنا مهما على الساحة الاقتصادية والسياسية، في حين تظل الدول التي تحاول شق عصا التلاحم الإسلامي قليلة العدد وإن بدت كبيرة التأثير.

تستطيع الدول الإسلامية تحقيق التكامل الاقتصادي في مجالات شتى بما تمتلكه من موارد كثيرة، ومن ثم إنشاء السوق الإسلامية المشتركة التي طالما ظلت حلما يراود الكثير من أبناء الأمة الإسلامية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وغير ذلك من المشاريع التكاملية المهمة، ولعل دور البنك الإسلامي للتنمية وجهوده المهمة خير دليل على قدرة الدول الإسلامية على العمل المشترك بوجهه الاقتصادي.

في حال توفر الإرادة السياسية للدول الأعضاء تستطيع منظمة التعاون الإسلامي أن تقود التعاون بين الدوال الإسلامية إلى درجات متقدمة بما هو متوفر من قرارات قابلة للتفعيل في مجالات كثيرة، حيث يوجد في أدراج الأمانة العامة للمنظمة مئات القرارات التي حظيت بمباركة وتأييد زعماء الدول الإسلامية، مع وجود جهاز الأمانة عالي الكفاءة حيث يزخر بكفاءات مرموقة ومستنيرة تعي مشاكل الأمة، وعلى رأس هذا الجهاز الأمين العام النشيط البروفسور أكمل الدين إحسان أوغلي.

في مقدرة منظمة التعاون الإسلامي أن تكون مرجعا لحل الخلافات بين الدول الأعضاء من خلال أجهزتها الحالية أو التي يمكن استحداثها، بدلا من أن تظل الدول الإسلامية مستباحة من المنظمات والهيئات الدولية التي لديها الكثير من الأهداف والأجندات المعلنة وغير المعلنة تجاه العالم الإسلامي، ناهيك بالدور الذي يمكن أن تؤديه هذه المنظمة في رفع معدلات التنمية ومحاربة الفقر، والجوع، والتصحر، والأمراض والأوبئة في الدول الإسلامية الفقيرة.

منظمة التعاون الإسلامي لا تواجه احتياجات الأمة من فراغ، بل من خلال تاريخ طويل وتجربة ثرية للمنظمة بمسماها القديم، يكفي أن تعود إلى ما تمخضت عنه القمة الاستثنائية التي احتضنتها مكة المكرمة ورأسها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في عام 2005م، حيث شخصت نتائجها كل الأمراض ووصفت العلاج الناجع للشفاء منها، وهذا ما جاء في بلاغ مكة، وبرنامج العمل العشري، والبيان الختامي لهذه القمة.. الأمة الإسلامية في حاجة إلى العمل بدلا من التمنيات.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث.