عادة عراقية مستحكمة

TT

الأكراد في العراق لا يختلفون كثيرا عن إخوانهم العرب العراقيين، كلاهما ينزع إلى العنف والقوة لمعالجة مشكلاته التي لا تنتهي، خاصة السياسية، ولو بدرجة أقل، فهما بشكل عام لا يؤمنان كثيرا بأسلوب الحوار والتفاهم والجلوس إلى طاولات مستديرة أو مستطيلة لفض النزاعات بالطرق العصرية والوصول إلى حلول ترضي الأطراف المتنازعة.. «كلام فاضي!»، بل يفضلان أسلوب المكر والمراوغة السياسية والكر والفر وفرض الإرادات بالقوة الغاشمة، وهي القانون السائد والطريقة المثلى لديهما للتعامل مع بعضهما بعضا ومع الآخرين، وإذا ما اضطرا إلى الاحتكام إلى الحوار والمصالحة والجلوس للمفاوضات، فإنهما لا يخرجان أبدا من هذه الاجتماعات بصيغة اتفاق واضحة وصريحة مدعومة بعقود ومواثيق غليظة ملزمة، تفضي إلى الحل وتقضي على المنازعات والخلافات وتضع النقاط على الحروف، بل ببنود اتفاقية ناقصة غير ملزمة مليئة بعبارات سياسية وقانونية فضفاضة تحتمل معاني وغايات عدة، وإذا فشلا في عقد اتفاق فما أسهل أن يعمدا إلى تشكيل لجان مشتركة لتنجز ما عجزا عن إنجازه «على نار هادئة»، وهي بالطبع لن تنجز أي شيء أبدا ولن تحل أي قضية، لأنها وضعت أصلا لكي لا تفضي إلى شيء وتبقي الحال على ما هو عليه لفترة أطول، ريثما يعيدان حساباتهما من جديد، ويستعدان لجولة أخرى جديدة من المنازعات والصراعات التي لا تنتهي (انظر إلى المادة 140 الدستورية بعد عام 2003 التي وضعت لتعالج أهم وأكبر قضية مستعصية في تاريخ العراق الحديث على الإطلاق، وهي قضية الأراضي المتنازع عليها بين العرب والكرد؛ فبمجرد أن أُسندت معالجتها إلى لجان، حتى تلاشت الآمال في الوصول إلى حل لهذه الأزمة السياسية العميقة).

فالعراقيون لهم تاريخ حافل مع هذا النوع من اللجان «المنزوعة الصلاحية»، التي لا تحل ولا تربط، ولا تقدم ولا تؤخر، فالمشكلات الكثيرة المتراكمة، التي ما زالت قائمة وتحتاج إلى جهود استثنائية لمعالجتها، تظهر بوضوح عجز تلك اللجان «الفاشلة» في التصدي لها واحتوائها قبل أن تتفاقم وتتحول إلى عقد وأزمات سياسية واجتماعية توقف نمو المجتمع وتطوره.

ويعزو المحللون الاجتماعيون هذا الأسلوب الغريب في التعامل إلى عدة أسباب موضوعية، منها عدم وجود رابط قوي موحد يربط بين تنوعات العراق العرقية والطائفية، كالدين أو الوطنية أو القومية أو دستور واحد يتفق عليه الجميع ويرضى بأحكامه، وفي ظل تعدد المرجعيات وعدم وجود مرجعية واحدة تقود وتجمع الشتات العراقي، انعدمت الثقة بين تلك التنوعات المتناقضة تماما؛ فلا الشيعي يثق بالسني، ولا السني يأتمن الشيعي، ولا الكردي يثق بالاثنين، طبعا لكل واحد منهم ما يبرر موقفه، وبحسب دراسة عالم الاجتماع العراقي الراحل، الدكتور علي الوردي، فإن هذه الحالة غير المتوازنة لها علاقة مباشرة بالشخصية العراقية التي تميل بشكل عام إلى الجفاء والعنف والفوضى والتشبث بالرأي والدفاع عنه وإن كان خاطئا، بسبب طبيعتها العشائرية وانتمائها «المناطقي»، وتفاخرها بالعشيرة والتباهي بعاداتها وتقاليدها، والانتساب إليها أكثر من انتسابها إلى الآباء والأجداد، وأكثر من تفاخرها بالمهن والحرف التي كانت سائدة في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي أيام الزهو الملكي؛ كمهنة «الدباغ» و«الصفار» و«الصباغ» و«الصائغ» و«الحداد» و«الباججي» و«البزاز» وغيرها من هذه المهن التي كان العراقي يفتخر أيما افتخار بمزاولتها والانتساب إليها، ولكن بعد اندلاع الانقلابات «الثورية» في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، انتشر الفكر القومي المتشدد، الذي كان يعتمد في جانب كبير من دعوته على العشائر والقبائل العربية، ويدعو ويحض على إحياء روح القبيلة والبداوة باعتبارها المادة الأولية التي يتشكل منها الفكر العروبي «الأصيل»، كما برز اهتمامه بالجانب الديموغرافي والجغرافي (المناطقي) للوطن العربي ودوره في احتضان ورعاية الفكر القومي لـ«مواجهة القوى الاستعمارية» وإفشال مؤامراتها! وكان الشعار الذي يرفعه القوميون ويتغنون به دائما:

بلاد العرب أوطاني

من الشام لبغدان

ومن نجد إلى يمن

إلى مصر فتطوان

فبعد أن كان العراقيون يحتمون بالعشيرة والقبيلة وينتسبون إليها لاكتساب القوة والمنعة، ظهرت ألقاب، مثل العبيدي والتكريتي والدليمي والطالباني والمالكي والشمري، أصبح لدينا من ينتمي إلى المنطقة أيضا ويحمل اسمها، كالسامرائي والتكريتي والفلوجي والبصري، وغيرها من الألقاب التي ترتبط بالأرض والعشيرة مباشرة.

فإذا علمنا أن الإنسان العراقي يحمل في داخله طبيعة بدوية وثقافة عشائرية وعادات قبلية، وهو شخصية تفتخر بانتمائها إلى منطقة بعينها أكثر من انتمائها إلى الوطن، عرفنا السر في إصراره على تفضيل حياة الصخب والفوضى «اللاخلاقة» على حياة الدعة والرخاء والسلام، واختيار الخلافات والنكد والصراعات الدائمة على الأخوة والمواطنة الصالحة.