في العمر لحظة!

TT

إن الذي يريحنا ويقلقنا لا يعني أحدا سوانا.. هان الإنسان على نفسه، فانكسرت كبرياؤه، وانكمش ظله، وانحط على الأرض لا يحرك يدا ولا عينا ولا يهز عقلا، فلا عمل لمن لا أمل له.. ولا معنى لمن لا قيمة له، ولا دنيا لمن لا دين له.

ولذلك فإن الله يقول للإنسان إنه يراه وإنه يراقبه.. وإنه سوف يكون به رحيما إذا أخطأ، وسوف يفتح له خزائن الثواب وكنوز الرضا إذا أحسن إلى غيره وإلى نفسه.. وراعى الله الذي يرعاه، ونصر الله الذي ينصره.. هذا الحوار بينه وبين ربه هو الذي يجعل طريقه الطويل قصيرا.. وعذابه العميق هينا.. وضياعه هداية.. وحيرته يقينا!

ولا أقول إنني اهتديت إلى كل شيء.. فأين هو الوقت، وأين هو الصفاء.. وأين هي لحظات التركيز والإحساس المباشر بكل القيم العليا في الحياة؟

كيف أبلغ ذلك والحياة ضوضاء وأرق وقلق وخوف وهوان وعذاب ويأس واضطراب وزحام في الذهاب والإياب، عند الحياة وعند الموت.. كيف أرفع رأسي إلى أعلى وقد اعتدت على أن أحنيه لأرى مواطن القدمين، وأمسك ما في اليدين، وأحمي اليدين من أيدي الآخرين، وأحمي رأسي من أقدام الطاغين الباغين الظالمين الجشعين.. أين يجد الإنسان الراحة وسط هذا الفزع الأكبر الذي هو حياتنا. ومن يحرص على حياته يتعذب بها، ومن لا يحرص على حياته يعذبه الآخرون.

وكيف ينظر الإنسان إلى نفسه ليعرف حقيقته وحقيقة هذا الكون والله وراء كل شيء.. كيف؟!

إن المسافة التي بينه وبين نفسه قد امتلأت بملايين الناس والأشياء.. إنها لحظات قليلة عندما يجد الإنسان نفسه أمام نفسه.. وجها لوجه.. إنها لحظات في نومه الهادئ أو في مرضه الطويل أو على فراشه الأخير..

أو إذا ذهب إلى الأراضي المقدسة فما الذي يستطيعه في أرض تغطت بقلوب لها أقدام حافية وصدور عارية وحناجر مدوية ورؤوس لامعة وعيون دامعة وألسنة لا يتعارف بعضها على بعض..

من الذي وسط الزحام.. على المقعد والسرير والرغيف والماء والدواء والظل والدفء، يستطيع أن يتأمل ماذا حدث له في حياته، وما الذي سوف يحدث له..

لم أكن أسعد الناس.. وإن كنت تمنيت ذلك الإيمان العظيم الذي جاء وصفه في التاريخ الإسلامي بأنه «إيمان العجائز».. أين هذه البساطة؟ أين هذا الإحساس المباشر بالله؟ أين هذا الإيمان الساحق الماحق الباهر لكل ما قرأت وتعلمت وعلمت واجتهدت.. أين هذا الذي لا يذوقه الإنسان إلا مرة واحدة في العمر.. إلا لحظة في العمر كله!