الشاشة غشاشة

TT

على الرغم من أن الكثير يتحدثون عن دور التلفزيون في الثورات العربية، فإن أداء الفضائيات العربية داخل الدولة الواحدة لم يرقَ إلى مستوى الأحداث؛ إذ اعتمدت الشاشات، في مصر مثلا، على لقاءات الاستوديو لمن نصبوا أنفسهم زعماء للثورات أو محللين للثورة، فجاءت أحاديث التلفزيون لا تحمل نبض الواقع؛ لأن مقدم أو مقدمة البرنامج لم يخرجا من الاستوديو، لم يشتما رائحة الحدث، فجاءت الثورة في البرنامج نظيفة من دون دماء الشهداء الذين دفعوا أغلى ثمن من أجل التغيير.. جاءهم حدث السويس كتقرير إخباري من الوكالات علق عليه المحلل المقيم في القاهرة الذي ربما لم يزُر السويس مرة واحدة في حياته.

قدمت الشاشات خطابات مبارك، وقدمت من نصبوا أنفسهم معارضين له، أو من أمسكوا العصا من المنتصف، على الرغم من أن الشارع لا يعترف لا بذلك ولا بهؤلاء، لم تقترب الشاشة من الحدث. في عز أيام الثورة في مصر كانت «سي إن إن»، و«سكاي» و«بي بي سي» أقرب إلى ميدان التحرير من الشاشات المصرية. بالطبع الشاشات المصرية، وبهواتها، لم يكلفوا أنفسهم عناء الذهاب إلى ما يسمونه الأقاليم، لم يذهبوا إلى السويس أو طنطا، أو حتى إلى قنا يوم قطع الأهالي خطوط السكك الحديدية. فقط بقوا في الاستوديوهات، وتلقوا مكالمة من هنا وتحليلا من هناك، وكفى الله الشاشات شر الحركة خارج الاستوديو. وبذلك كانت الشاشة غشاشة.

أما في ليبيا واليمن وسوريا، فاستبدلت الشاشات العربية بأشرطة بن لادن التي كانت تتلقاها في السابق، أشرطة الـ«يوتيوب» المحملة على الإنترنت، ثم نسمع بعدها تعليقات لجهابذة المعرفة، بأن النظام سوف يسقط السبت قبل الأحد، وهاهي أنظمة الأسد وعلي عبد الله صالح والعقيد، جميعهم يقاتلون منذ 6 أشهر ولم تسقط الأنظمة بعد.. الشاشات تقول شيئا والواقع يفرض أشياء أخرى.

الاعتماد على الـ«سوشيال ميديا» (وسائل الاتصال الاجتماعي)، كمصدر وحيد وأساسي للخبر، أمر مرفوض في عرف المحطات الإعلامية العريقة، وهو أمر فيه من الاستسهال وعدم المهنية الشيء الكثير.. فعلى الرغم من أن هذه الوسائل تزداد أهميتها يوما بعد يوم وتفرض نفسها على وسائل الإعلام التقليدية، فإنها تظل وسائل يصعب التأكد من مصداقيتها وتحتاج إلى نقاش تحريري جاد حول مبررات استخدامها، وفي النهاية تبقى وسائل رديفة ومساعدة إذا وضعت ضمن سياق أوسع من المعلومات، ولكن لا يمكن الاعتماد عليها فقط في صنع الخبر.

في الأحداث الكبرى مثل الحروب أو الكوارث الطبيعية التي تنتج عنها معاناة مجموعة كبيرة من البشر أو الثورات كالتي تحدث في عالمنا العربي، تقتضي المهنية من الوسائل الإعلامية التي تشتغل بحرفية عالية أن تشهد هذه الوسائل الحدث بنفسها بما يعرف بـFirst Hand Source، فيكون لها طاقم صحافي كامل على أرض الواقع، صحافيون كبار ذوو خبرة؛ حيث لا يتم الاعتماد على المراسلين فقط ولا يتم إرسال صحافيين مبتدئين، بل غالبا ما يكون هؤلاء من كبار الصحافيين. وفي أحيان كثيرة، يذهب مدير القسم الإخباري أو مدير البرامج الإخبارية، حسب أهمية الحدث، ويذهب مقدمو برامج ناجحة وذات شعبية لإعدادها من موقع الحدث لا من الاستوديوهات، وكذلك مراسلون ومصورون إلى آخر الطاقم الصحافي والتقني والإداري. أي يصبح المكان الجغرافي الذي فيه الحدث هو الأساس في التغطية الصحافية من تقارير وبرامج ويكون الاستوديو في هذه الحالة هو الثانوي الذي يتلقى المواد الإعلامية من الفريق الإعلامي الذي سافر إلى البقعة الساخنة. وفي بعض الحالات عندما لم يكن يسمح لوسائل الإعلام الأجنبية بدخول بلد ما، فإن فريق العمل كان يقدم تقاريره من دولة ملاصقة جغرافيا لموقع الحدث.. الأساس هو أن يشعر المشاهد بمصداقية الإعلام وأنه على دراية مباشرة أو على الأقل يعيش في المناخ العام حول ما ينقله إليه، فيحس بأنه في جو الحدث لا في جو الاستوديو المعزول عن الصوت والضجيج والخبر.

هذا ما تفعله المحطات الإعلامية المهنية إذا كان الحدث في بلد ومقر المحطة في بلد آخر، كما ذكرت سابقا في حالة «بي بي سي» و«سي إن إن» و«سكاي»، عندما ذهبت هذه المحطات لتغطية الثورة المصرية. فكيف إذا كان الحدث في بلد المحطة نفسها كما هو حال التلفزيونات المصرية؟ كان من المفترض أن تقود هذه المحطات المحلية التغطية الإعلامية في العالم بأسره عن الثورة المصرية، وتأخذ منها كل محطات الدنيا وتعتبرها دليلها وعينها على ما يحدث هناك. لكنها جميعا، وباستثناءات تعد على أصابع اليد الواحدة، فضلت الاستوديو على الميدان، فضلت أن تبقى في القاهرة وتترك حي الأربعين وقنا وطنطا للهواة من المراسلين، أو لاتصال هاتفي بالبرنامج من شخص في المنطقة محل النقاش والدراسة. وقدمت لنا برامج حوارية أخذت أسماء مختلفة وأشكالا بصرية مختلفة بمضمون واحد هو الحوار عن الثورة وما بعد الثورة، حوارات تلفزيونية طويلة وممطوطة ومكررة مع بشر مارسوا الثورة فقط على الشاشات وعزلوا أنفسهم عنها في الواقع كما جدران الاستوديوهات التي تستضيفهم وتعزل نفسها عن الصخب والضجيج خارجها.. كذلك هي الشاشة غشاشة!