ليس كلاما في «جرايد»!

TT

في مرات كثيرة، يوصف ما تنشره الصحف - في مصر على الأقل - بأنه «كلام جرايد».. ولا أحد يعرف إلى الآن، من أين جاءت هذه التسمية، ولا متى قرر المتابعون لما يأتي في الصحافة، أن يصفوا بعض ما يجيء فيها، أو أغلبه، أو حتى كله، بأنه كلام جرايد..

وقد كان هذا الوصف، ولا يزال، يمثل طعنا في شيئين اثنين: أولهما المادة المنشورة ذاتها، وثانيهما الصحيفة التي نشرت هذه المادة، لا لشيء، إلا لأن المعنى الكامن خلف الوصف، هو أن الكلام الذي يوصف على هذا النحو، إنما هو كلام بلا قيمة، وبلا أثر، وبالتالي، فإن الوسيلة التي حملته إلى الناس تظل هي الأخرى، مطعونا في جدواها، ما دامت تنشر كلاما بلا وزن هكذا، على الناس!

والسؤال هو: هل يمكن وصف بعض ما تنشره الصحف، أو أغلبه، أو كله، بهذه الطريقة، عن حق، وهل هو فعلا، فاقد للقدرة على التأثير في القارئ، وإلى الحد الذي يقال عنه، والحال هكذا، إنه مجرد «كلام».. بل و«كلام جرايد» أيضا؟!

عندي واقعة محددة، يمكن أن تكون مفيدة في هذا السياق.. ففي عام 2005 كانت قد جرت في مصر أول انتخابات رئاسية، وكان الرئيس السابق حسني مبارك هو مرشح الحزب الوطني الحاكم وقتها، وكان أمامه تسعة مرشحين آخرين، عن أحزاب مختلفة، وكانت صحيفة «الأهرام» تنشر عن «مبارك» وكأنه المرشح الأول، والأوحد، ولا مرشح غيره، مع أنها، كصحيفة، كانت دائما تقول عن نفسها، ويقول عنها المصريون، إنها صحيفة قومية، وهذا يعني أنها صحيفة لكل المصريين، فهي بإقرار منها، ومن غيرها، ليست حكومية، وإنما قومية، وكان المتخيل، تبعا لذلك، أن تساوي بين المرشحين جميعا، فيما تنشره لهم، أو عنهم، ولكنها عمليا لم تكن تفعل ذلك، وكان لمرشح الحزب الوطني، الذي هو حسني مبارك، نصيب الأسد فيها، وربما أكبر من نصيب الأسد نفسه!

يومها، استفزني الأمر، فكتبت أقول ما معناه، إن «الأهرام» المفترض فيها أنها صحيفة كل المصريين، بلا استثناء، وأنها لا تفرق بين مؤيد ومعارض، اللهم إلا إذا كانت تعتبر نفسها صحيفة حكومية، فتكون - عندئذ - جريدة المؤيدين فقط، ولا يكون للمعارضين فيها نصيب.

كتبت مقالا بهذا المعني في صحيفة «الوفد» التي كنت نائبا لرئيس تحريرها أيامها، وقلت ما معناه أيضا، إن من حق أي مرشح رئاسي آخر، من المرشحين التسعة، أن يحظى بمساحة في «الأهرام» مساوية لما حظي به المرشح، لا الرئيس، حسني مبارك.

كان رئيس تحرير «الأهرام» هو الأستاذ أسامة سرايا، وما حدث بعد نشر المقال في «الوفد» أنه حدثني، وطلب أن أكتب ما أشاء، عن أي مرشح رئاسي آخر، بخلاف المرشح مبارك، ووعد بأنه سوف ينشر ما سوف أكتبه، في مساحة مساوية تماما لما كنت أنا من جانبي، قد انتقدت تخصيصه لمبارك وحده، ووجدت فيه تمييزا بلا مبرر لحسني مبارك، عن المرشحين الآخرين.

لم أكذب خبرا، فكتبت ما يملأ صفحة كاملة، في الأهرام، وأرسلته، وتم نشره بالفعل، وكان المقال عن الدكتور نعمان جمعة مرشح حزب الوفد المعارض في انتخابات الرئاسة في ذلك الوقت، وكنت بطبيعة الحال أدعو الناخبين إلى أن يعطوا أصواتهم، إذا ذهبوا إلى صناديق الاقتراع، لمرشح الوفد، الدكتور نعمان، وكان المقال من أوله إلى آخره، يحتشد بما يمكن أن يكون إغراء للناخب، في اتجاه مرشح الوفد، لا مرشح الحزب الوطني طبعا!

انعقدت الانتخابات بعدها، وكان ما كان فيها، من فوز كاسح لمرشح الحزب الوطني، وخسارة فادحة لسائر المرشحين جميعا، بمَنْ فيهم مرشح الوفد، وانقضى الأمر، ونسيت الحكاية كلها، ولم أعد أذكرها!

وبعد ذلك بشهور، أصابت الوفد تغيرات طارئة، أدت إلى خروج الدكتور نعمان من رئاسته، ومجيء رئيس آخر للحزب، هو الدكتور محمود أباظة، رئيس الوفد السابق، واقترنت التغييرات الطارئة في الوفد، كحزب، بتغييرات مفاجئة، ومماثلة من جانب بعض الصحافيين الذين كانوا مع نعمان جمعة، فانقلبوا عليه بنسبة 180 درجة، بمجرد خروجه، ولكن هذا، على كل حال، موضوع آخر!

والمهم في الموضوع، أني فوجئت ذات يوم، بعد خروج «جمعة» من رئاسة الوفد، بشاب يأتي إلى مقر الجريدة، ومعه الصفحة التي كنتُ قد كتبتها في «الأهرام»، عن مرشح الوفد في انتخابات الرئاسة.

كان الشاب الذي لا أذكر اسمه الآن، يحمل الصفحة المنشور عليها المقال، وكان قد وضع خطوطا حمراء تحت سطور محددة في المقال، وقد جاء ليقول لي إنه كان تأثر بما كتبته عن مرشح الوفد، وإنه، أي الشاب إياه، قد قرر بعد قراءة ما كتبته في حينه، أن يخرج يوم الانتخاب، وأن يعطي صوته لمرشح الوفد، وليس لمرشح الحزب الوطني، وهو قد فعل ذلك، كما فهمت منه، تأثرا بما كنت قد كتبت، وبما كان من جانبه قد وضع تحته خطوطا حمراء، ثم جاء ليطلعني عليه!

لا أعرف بطبيعة الحال، كم من الشباب والرجال في البلد وقتها، قد تأثر بما نشرته في «الأهرام»، ولا أعرف كم منهم قد قرر، بناء على ما قرأه، أن يعطي صوته لفلان من المرشحين، دون «علان».

لا أعرف شيئا من هذا كله، ولكن ما أعرفه، أنه من يومها، إلى الآن، أقلَّب عبارة «كلام جرايد» في ذهني، وأتساءل دوما، بيني وبين نفسي، طول الوقت، ثم على مسمع من الآخرين، بعض الوقت، عما إذا كانت هذه العبارة صادقة، في كل أحوالها، أي أنها خادعة، ومضللة، وظالمة، لأنها تصور الصحف كلها، في نهاية الأمر، وكأنها تحرث في بحر، وكذلك الذين يكتبون فيها، بل وتنتقص من شأنهم وشأنها.

قصة الشاب الذي جاءني تقطع بأن ما تنشره الصحف، في أغلبيته الكبيرة، ليس «كلام جرايد» ولا يجوز.. فما تحمله إليك هذه الجريدة التي بين يديك - على سبيل المثال - في كل صباح، يظل له رصيد كبير في داخلك في حد ذاته، بصرف النظر عن مدى وقعه في نفوس المسؤولين، ويجب أن تتطلع إليه أنت، في كل وقت، على أنه كلام جاد، وهادف، وراغب في تغييرك للأفضل، وليس مجرد «كلام جرايد» يُقال على سبيل تسويد الصفحات.. لا أكثر!

قد تكون التسمية جاءت وتراكمت تاريخيا، بسبب سوء ظن الحكومات، لا الناس، فيما يأتي في وسائل الإعلام عموما، والصحف من بينهما خصوصا، ومن شأن سوء الظن، على هذا المستوى أن يجعل تأثير المادة الإعلامية قليلا لدى صاحب المسؤولية، وأن يجعل المواطن المصري خصوصا، والعربي عموما، قليل الثقة في إمكانية أن تؤدي وسائل الإعلام، بما تنشره، إلى تغيير للأفضل في حياته. ومن هنا، كان هذا المواطن يظل يتابع المادة الإعلامية، في كل حالاتها، ويرى مدى حماسها، وإخلاصها، ثم لا يرى لها أثرا على الأرض، ليس لعيب فيها، وإنما في الذين عليهم أن يأخذوا بها، ممن في أيديهم المسؤولية، ولكنهم لا يفعلون، ويتقاعسون، ولا يلتفتون كثيرا، إلى ما يقال لهم، هنا، أو هناك!

لا تتحسس عقلك، كقارئ، إذا سمعت أحدا يصف مادة منشورة في أي صحيفة بأنها «كلام جرايد»، على سبيل الحط من شأنها.. فالذي أسقط الرئيس نيكسون - مثلا - وأخرجه من البيت الأبيض، كان كلاما في «جرايد»!