الضباب المخيم من جوبا إلى تونس

TT

تسيطر على المنطقة العربية حالة ضبابية، هي في علم السياسة أخطر الحالات. تبدأ حالة الضبابية هذه من دولة السودان الجنوبي الوليدة، وتصل إلى مشروع الدولة الفلسطينية (وإسرائيل). وبنظرة سريعة نستطيع أن نعدد أسماء إحدى عشرة دولة تعيش في جو من المشكلات. في الشمال الأفريقي نجد شريطا يمتد من دولة السودان الجنوبي، ثم السودان نفسه، ثم مصر وليبيا وتونس. وفي المشرق العربي نجد شريطا آخر يمتد من اليمن إلى العراق وسوريا والأردن ولبنان، وصولا إلى دولة فلسطين المنتظرة في أروقة الأمم المتحدة.

وليست المسألة هنا أن نعلن تأييدنا أو معارضتنا لما يجري في هذا البلد أو ذاك، فالأمر أخطر من التأييد والمعارضة. فالسؤال المطروح يتعلق بالمستقبل، والمستقبل غامض لا يدري أحد إلى أين يسير، والتغييرات الكبيرة التي حصلت لم تستطع أن تحمل معها جوابا حول المستقبل. وتقليديا كان العمل الذي يسمى «الدول الكبرى» يتدخل ويرسم ويفرض عبر الصراع صورته للمستقبل، لكن هذه الدول الكبرى تبدو الآن عاجزة عن أداء هذه المهمة. إنها تتصرف كعامل من العوامل المؤثرة، لكنها لا تستطيع أن تجزم بأنها العامل الحاسم. لا يمكن الاستخفاف بدور الولايات المتحدة الأميركية مثلا، لكنها هي أيضا تعاني مشكلات داخلية (اقتصادية) تعطل نفوذها السياسي العالمي. كما أن دولا ناشئة كالصين أصبح لها وجودها في السياسة الدولية، وأصبحت لها بدورها مصالح ومطالب.

دولة السودان الجنوبي التي برزت إلى الوجود يوم 9/7/2011، عاشت حالة من الفرح في جوبا، لكنه فرح ممزوج بالمخاوف. فهل ستكون هذه الدولة الوليدة، والتي تحتل قبيلة «الدينكا» المكانة القيادية فيها، قادرة على تجنب حرب أهلية داخلها، تنشب مع القبائل الأصغر التي ترى أنها أصبحت مهمشة وربما مضطهدة؟ مجلة «فورين بوليسي» الأميركية نفسها كتبت أن الرئيس الجنوبي «سلفا كير» خاطب الميليشيات المتمردة قائلا لها «انضموا إلينا»، لكن قادة الميليشيات هذه تحدوا الحزب القائد، وما جرى في انتخابات أبريل (نيسان) عام 2010 أدى إلى فتح جروح الحرب الأهلية بين الفصائل المختلفة. والمجلة نفسها تقول إن الأمن الداخلي يشكل خطرا كبيرا على الدولة الجديدة، فلدى مواطني السودان الجنوبي مشكلات جدية مع (الحركة الشعبية لتحرير السودان).. فقد تم طرد مسؤولين محليين لأنهم تحدثوا علنا عن القتال بين الجيش الوطني والميليشيات المحلية، وهو القتال الذي أدى إلى تهجير العديد من منازلهم. وهي تقول أيضا «يتعرض سائقو التاكسيات والبائعون المتجولون إلى توقيف اعتباطي على أيدي قوات أمن غير منظمة، وأحيانا عدائية، تقوم بالتحرش والترهيب وطلب الرشوة».

هذا الوضع الداخلي البحت الذي يهدد هدوء الدولة الوليدة، ليس بعيدا عن الولايات المتحدة الأميركية، والمجلة الأميركية نفسها تقول «رغم جهود وزارة الخارجية في متابعة ما يفعله المتعاقدون الخارجيون الذين وظفتهم (الحركة الشعبية لتحرير السودان)، لا يزال الجيش يتصرف بعنف في حملاته لطرد الميليشيات المناهضة للحكومة من الولايات الثلاث المنتجة للنفط». إنه النفط إذا يطل برأسه، لكنه يأتي هذه المرة ممزوجا بعامل جديد هو الصين. الصين تعمل في السودان ولا وجود لها في دولة السودان الجنوبي، لكنها عامل صراع مباشر مع الولايات المتحدة الأميركية حول النفط السوداني، وبخاصة بعد أن مارس الرئيس البشير سياسة انفتاح على الصين يوازن بها الضغط الأميركي الذي تعرض له. وتستعد الصين منذ سنوات لتكون مستثمرا أساسيا في نفط شمال السودان، وعلى حساب الاستثمار الأميركي الذي توقف بقرار سياسي (شركة «شيفرون»). وتعمل الصين منذ سنوات على بناء مزارع تنتج كل أنواع الخضراوات التي يأكلها الصينيون، وبواسطة مزارعين من دارفور، تمهيدا لتوسيع تجربتها هذه داخل دارفور نفسها إذا عادت إليها حالة الهدوء. وتشير مجلة «أتلانتك» إلى دور الصين قائلة «لن تتمكن الولايات المتحدة منفردة من إنهاء العنف في السودان، إذ لا يملك بلد واحد القدرة اللازمة على ذلك، وبخاصة أن الخرطوم تعمق علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع بكين.. كما أن البعض يشكك في مستقبل الجهود الأميركية».

يمتد تأثير ما قد يجري في دولة السودان الجنوبي إلى دولة السودان نفسها، كما يمتد بالضرورة إلى مصر، لينشأ بعد ذلك شريط يصل إلى ليبيا، حيث يخوض حلف الأطلسي هناك حربا خاصة به. ولا تستطيع تونس بعد ذلك أن تنأى بنفسها عن هذا التأثير. يضاف إلى ذلك أن الوضع في تونس ومصر يثير قلق الأميركيين والغربيين، وهم يراقبون ويدرسون احتمالات المستقبل في هذين البلدين بالذات، ويتساءلون عن نوع القوى التي ستسيطر على الأوضاع، وهنا تبرز احتمالات متشابهة. هل تكون السيطرة لقوى التغيير التي خرجت إلى الشارع؟.. أم للإسلاميين بتياراتهم المختلفة حيث يشكلون أكبر قوة شعبية منظمة؟.. أم أن السيطرة في النهاية ستكون للجيش، بسبب عجز قوى التغيير عن فرض نفسها بسبب عدم امتلاكها لعنصري القيادة والبرنامج؟

تدرس هذا الموضوع باهتمام مجلة «الإيكونوميست» البريطانية، وهي تطرح احتمالات متعددة للمستقبل، يبرز من بينها احتمال تسلم الجيش للسلطة. حول مصر تقول «سيتسلم الجيش قيادة الحياة السياسية في مصر من جديد، إذا أدت الانقسامات في المجتمع المصري إلى صدامات عنيفة، أو إذا استطاع فريق واحد الانفراد بالسلطة». وحول تونس تقول «الإيكونوميست»: «إذا فشلت الحكومة الانتقالية في إجراء الانتخابات في 24/7/2011، وترافق ذلك مع موجة احتجاجات جديدة، فهناك إمكانية لأن يتسلم الجيش السلطة». وهنا من الضروري تركيز الأنظار على المظاهرات المصرية الحالية في ميدان التحرير، حيث تبرز هذه المظاهرات وكأنها في حالة مواجهة مع المجلس العسكري الأعلى، والذي لم يقصر بدوره في توجيه التهديد للمتظاهرين إذا تجاوزوا حدودا معينة. كما أن حالة المواجهة في تونس، بين المطالبين بالانتخابات والداعين إلى تأجيلها، يضع الأمور التونسية في السياق المصري نفسه، لتكون النتيجة أن حركات التغيير العربية، التي مثلت في تونس ومصر أرقى حالاتها، لم تستطع أن تصل إلى أهدافها. وتكتمل بذلك حالة الوضع الضبابي الذي يخيم على المنطقة العربية من أقصاها إلى أقصاها.

وبديهي أن إسرائيل ستكون حاضرة في هذا المشهد. وهي حاضرة الآن علنا في دولة السودان الجنوبي، وتعدها بمساعدات عسكرية وغير عسكرية. وهي حاضرة أيضا في تهديدها الجديد للبنان من خلال قضية آبار الغاز البحرية وقضية ترسيم الحدود البحرية، هذا التهديد الذي قد ينذر بحرب جديدة.

ولا نريد أن ننهي رسم هذه الصورة بندب حول هزال سياسة المواجهة العربية لكل هذه الوقائع، لكن مصلحة كل دولة عربية تقتضي منها درسا عميقا لما يجري، من أجل فهمه، ومن أجل مواجهته. ومصلحة كل دولة تقتضي منها تشاورا أوسع يحاول الوصول إلى سياسات عربية متناغمة.