من 5% إلى الأم تيريزا!

TT

كل نظام فاسد بحاجة لوسائل تمكين، ومن أهم وسائل التمكين المال. وها هي الثورات العربية تكشف دور المال في فساد السلطة في تونس ومصر واليمن وليبيا، وطبعا سوريا. كل هذه النماذج كان الحديث عنها في دور حاشية الرئيس، وكيف تمكنوا من بسط نفوذهم على الاقتصاد، وأصبحت الصفقات لا تمر إلا من خلالهم، وحتى الأنظمة التي تشرع يتم «أخذ» مكانتهم فيها!

وفي سوريا، كان السر للنظام، الذي يعلمه الجميع، ولا يجرؤ على الحديث عنه أحد، هو علاقة ابن خال الرئيس، رامي مخلوف، الذي أصبح فجأة مفتاحا لكل الاقتصاد السوري، فدخل في مجال الاتصالات، وأسس أول شركة اتصالات للهاتف الجوال، بعد أن «فاز» بالرخصة المعروضة، وكان له «دور ما» في الرخصة الثانية، التي تم منحها لشركة منافسة، وحينما دخلت معه شركة للاتصالات في شراكة مع شركته «سيرياتيل»، واجه رئيس مجلس إدارة تلك الشركة العجب العجاب من وسائل الضغط حتى اضطر للاتجاه لوسائل الإعلام للشكوى، بعد أن «سد» في وجهه القضاء السوري، واضطر للخروج من السوق السورية بأقل الخسائر الممكنة، وزاد نفوذ رامي مخلوف، وتمادت سلطته بعلم تام من النظام؛ فالسوق الحرة كلها تحولت إلى شركة خاصة لرامي مخلوف؛ يستورد فيها ما يشاء، ومن أي مكان، وبأسعار خاصة، فينافس فيها تجار البلاد، وفتح فروعا لها في المنافذ الحدودية البرية، وفي المطارات، وأرباحه لا تدقق ولا تراجع، وكبر دور رامي مخلوف، وشكل شركة لها اسم مناسب عن دوره (شركة الشام القابضة)، وضم إليها دعوة وجبرا، أسماء معروفة، وأخرى غير معروفة، وبات كل صاحب مشروع مضطرا لأن «يشارك» رامي، وصار المثل الدارج في سوريا: «إذا بدك تشتغل بسوريا، ما عندك إلا خيارين؛ يا تخالف يا مخلوف».

ويروي لي أحد رجال الأعمال العرب عن موقف حصل له خلال زيارة تفقدية لسوريا، لبحث فرص الاستثمار، وقابل وزراء معنيين، و«عرف» رامي مخلوف عن وجوده، فطلب مقابلته، وتم تحديد موعد على عجالة، ودخل إلى مكتب رامي الأشبه بملعب كرة قدم صغير في حجمه، وقال له رامي بلغة الواثق: «كان لازم تعرف إن الطريق للشغل في سوريا لازم يمر من عندي!!».

هذا النظام حينما وصل للحكم كان له عداوة تاريخية مع الطبقة الاقتصادية القديمة؛ من تجار دمشق وإقطاعيي حماه، فأعلن عليهم الحرب، وأمم ممتلكاتهم، وأجبرهم على الرحيل، وقلص بالتالي نفوذهم، ولكنه كان بحاجة لصناعة زلم ومحاسيب جدد له، لكي يحققوا أهدافه، فأوجد أسماء جديدة وكون «برجوازية حديثة»؛ أسماء عرفت (أو غيرها لا تعرف) بأنها واجهة النظام الاقتصادية، وهو الذي كشفته أخيرا القائمة التي أصدرت من قبل أوروبا وأميركا، وتضمنت أسماء رجال أعمال محسوبة على النظام، ومقربين من رامي مخلوف، ولذلك يسخر السوريون من موقف رامي مخلوف الأخير، الذي أعلنه بعد انطلاق الثورة ضد النظام فيها، بأنه قرر التبرع بأنشطته التجارية لصالح العمل الخيري والتفرغ له، وأطلقوا النكات التي تبين كيف تحول «رامي 5 في المائة» - وهكذا كان يُسمى، لأن من كل مشروع كان يستقطع لنفسه نسبة – إلى شخص يتحدث كأنه الأم تيريزا! استغفال الناس بهذا الشكل يزيد من حنق الشعب، ويؤكد أن النظام فاسد وأن الحرس الجديد ليس أقل فسادا من الحرس القديم، والدليل المؤكد لذلك أن محافظ درعا، الذي تسبب في إطلاق الثورة لم يُعاقب نظرا لقرابته، وكذلك لم يعاقب رامي مخلوف على جرائمه المالية، والملف المتعلق بالفساد المالي لو فتح فهناك ملف إيراد النفط السوري، الذي لا يدخل ضمن الميزانية، وملف الزراعة المريب، الذي لا تزال سياسته تحمي بعض المصالح الضيقة.

طبقة سورية لديها غنى فاحش من مصادر مالية مريبة محمية من النظام، وأغلب الشعب السوري يزداد فقرا وذلا وجوعا، هذا هو الواقع الاقتصادي الحقيقي، وكل «سياسات الانفتاح» الأخيرة لم تكن إلا حماية للطبقة المستفيدة بشكل أساسي. من الصعب أن يقتنع أي أحد عاقل بأن سوريا البلد التجاري الأصيل والمذكور تميزه في القرآن الكريم، تدير أموره الاقتصادية حفنة مستفيدة، هي أشبه بمجاميع عصابات المافيا. كل ذلك إلى زوال، والوقت قد أزف، إن شاء الله.

[email protected]