هات ورقة وقلما واكتب!

TT

الناس نيام.. فإذا ماتوا انتبهوا. فالناس لا يعرفون هذه الحقيقة إلا في مرحلة متأخرة من العمر.. وإلا في لحظة باهرة ينكشف فيها الإنسان تماما.. فما الذي يراه؟ يرى أنه أمضى عمره كله يدور حول خوف.. أو حول أمل.. أو حول طمع.. أو حول حب.. وأن هذا الذي يدور حوله قد سلبه القدرة على الرؤية.. وعلى التمييز.. وأنه مسحوب من كل عواطفه إلى الأمام.. وأن هذا الانسحاب قد جعله مأخوذا دائما.. وجعل طريقه صعبا وعالمه ضيقا، وإذا أحس بالاختناق.. فليس سبب ذلك عيبا في جسمه.. ولكنه هو الذي جعل الجدران قريبة.. والسقف أقرب.. وراح يتنفس في هواء حبيس!

انظر إلى حياتك كل يوم.. انظر ولو مرة واحدة.. هات ورقة وقلما واكتب بالضبط ما الذي تفعله أو فعلته اليوم.. لا تخجل إذا أغمضت عينيك وتركت القلم يكتب ثم وجدته يرسم ثورا يدور في ساقية.. فليس عفريتا هو الذي كتب لك.. هذه هي الحقيقة.. أنت تدور وتدوخ.. تذوب.. تتلاشى.. أنت لا تدري ما الذي تفعله.. ولكنك أعمى.. أعميت نفسك.. وليس غيرك أحسن ولا أسوأ حالا منك.

كلنا نيام.. نمشي نياما.. نصحو نياما.. ونرى فيما يرى النائم أننا نفكر وندبر ونحكم ونتحكم.

وليس هذا تخريفا أو انسياقا وراء القلم.. ولا وراء هذه الكلمات. ولكن هذه الحقيقة عندما أدركتها بوضوح أذهلتني وأخافتني وملأت باليأس قلبي.. ولم أعد أعرف ما الذي أفعله وما الذي أقوله بعد اليوم. فليس في العمر وقت طويل لكي أفكر وأراجع ما اتخذته من آراء وما اهتديت إليه من حقائق.. وأنا أعلم أنه أفضل للإنسان أن يريح رأسه ويتوكل.. أن يربط أفكارا كمجموعة من الأغنام ويلفها حول رقبته ويختار له شجرة وينام تحتها حتى يجيء الموت الذي هو النوم الأبدي.. وفي ذلك كفاية. فالعمر لا يتسع للتفكير في كل شيء.. ولا أحد اتسع عمره لذلك.. وإذا ظل الإنسان يفكر في كل شيء فإنه لن يجد طعاما ولا شرابا، وهو لن يجد الطعام والشراب لأنه لن يجد رأسا ولا قلبا ولا معدة، وخير له أن يرضى بما اهتدى إليه وأن يستريح.. ولكن ماذا إذا اكتشف الإنسان أنه يدور حول شيء.. أو أن في داخله شيئا يدور، وأنه وكل الناس دائرون حول رغباتهم وشهواتهم ومخاوفهم وعقائدهم، أو أنه لا شيء في هذه الدنيا.. أو أن العالم من حولنا لا يهتم كثيرا إن ضللنا أو اهتدينا.. وأننا هكذا اليوم وغدا وأمس: لا شيء!