ما عواقب فشل أميركا في رفع سقف الدَّين وخفض عجز الموازنة؟

TT

يجب على «إدارة أوباما» والكونغرس رفع سقف الدَّين الفيدرالي بحلول 2 أغسطس (آب)، وهذا كل ما في الأمر. في عالم ما بعد تخلف الولايات المتحدة عن السداد، سوف تنهار الأسواق المالية وسيدخل الاقتصاد الأميركي والعالمي مرحلة خطيرة من الركود. سوف تواجه أميركا مشكلات مالية مخيفة، تخرج عن نطاق السيطرة في ظل انخفاض عائدات الضرائب وارتفاع الطلب على نظام تأمين البطالة وكوبونات الطعام المدعمة والمساعدة الطبية للفقراء والبرامج الأخرى التي تدعم المستضعفين من الأميركيين.

وسيكون من الرائع لو تمكن السياسيون من الاتفاق على السيطرة على عجز الموازنة في المستقبل في إطار اتفاق للحد من الدَّين، لكن ليس من الضروري أن يحدث هذا حاليا. سوف يرضي رفع سقف الدَّين المستثمرين العالميين ويحافظ على الانتعاش الاقتصادي بدرجة كافية حتى الانتخابات الرئاسية في العام المقبل. وسوف تكون انتخابات 2012 بمثابة استفتاء على كيفية معالجة مشكلاتنا المالية، فالفائز هو من سيضع جدول الأعمال، ويمكن أن يتم اتخاذ قرارات صعبة بعد تولي الرئيس القادم والكونغرس السلطة. ومن الجيد أن يحاول المشرعون القيام بالمزيد حاليا، آملا في أن يؤدي الضغط الذي يحيط بقضية رفع سقف الدَّين إلى القيام بتغييرات هامة في السياسة المالية. ويعد توحدهم والتفافهم حول نفس حسابات الموازنة أمرا مشجعا، حيث دعا الرئيس أوباما إلى خفض عجز الموازنة بنحو 4 تريليونات دولار على مدى السنوات العشر القادمة، وكذلك بول راين، النائب الجمهوري عن ولاية ويسكنسن ورئيس لجنة الموازنة في مجلس النواب في مقترح الموازنة، وأيضا اللجنة الوطنية للمسؤولية المالية والإصلاح المعروفة باسم «سيمبسون - باولز». وهناك حاجة ماسة إلى خفض الموازنة العامة بمقدار 4 تريليونات دولار على مدى السنوات العشر القادمة من أجل الحفاظ على الوضع المالي للحكومة والإبقاء على انخفاض معدلات الفائدة وتدعيم الاقتصاد الأميركي على المدى الطويل. وهناك خلاف كبير على شكل خفض العجز، لكن يمكن تجاوز ذلك إذا توافقنا حول توفير التريليونات الأربعة من خلال خفض الإنفاق الحكومي الذي يشمل النفقات الضريبية. وفي ما يلي الطريقة المناسبة لتحقيق ذلك. سوف يؤثر خفض الموازنة بنحو تريليوني دولار على النفقات التقديرية في البنود التي لا تتعلق بالدفاع ونفقات الدفاع وبرامج التأمين الوطني. وبالتأكيد هناك طريقة لمعالجة المشكلات التي تتعلق بالموازنة دون تغيير كبير في نظام الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية وبرامج الرعاية الصحية للفقراء. سيتم خفض الموازنة بمقدار تريليون دولار من خلال خفض النفقات الضريبية من استثناءات وإعفاءات وخصومات ضريبية، فضلا عن الائتمان الضريبي، وهي التي تعد من الثغرات التي يمتلئ بها قانون الضرائب والتي تكلف الحكومة أكثر من تريليون دولار سنويا. يعد خصم فوائد الرهن العقاري وحدها خلال السنوات العشر المقبلة يقدر بـ1.4 تريليون دولار. لكن هناك المئات تذهب بشكل غير مباشر إلى تمويل نفقات الطلبة والتأمين الصحي وتكاليف رعاية الأطفال وضرائب العقارات المحلية وما إلى ذلك.

يُنظر إلى نفقات الضرائب كإنفاق حكومي أكثر من كونه خفضا في الضرائب. على سبيل المثال، خفض الضرائب على العقارات المحلية يماثل إرسال الحكومة الفيدرالية فواتير على عناوين أصحاب المنازل. لذا خفض النفقات الضريبية يؤدي إلى خفض الإنفاق الحكومي. ومن المؤكد أن إنهاء النفقات الضريبية مثل أشكال التخفيف الضريبي لأغراض محددة يماثل إنهاء المخصصات التي يقدمها الكونغرس. على سبيل المثال لم يؤدِّ خفض الفائدة على الرهن العقاري إلى تحسين القدرة على تحمل تكلفة المنازل، والذي يعد من أهدافها الواضحة. يتم الاستفادة من فوائد الضرائب في أسعار المنازل التي ترتفع حينما يزيد خفض الضرائب الطلب على المنازل. ويعود النفع على أصحاب المنازل الأكبر الذين يدفعون أقساط رهن عقاري ضخمة وأصحاب الدخل المرتفع، الذين يمكنهم توضيح البنود بالتفصيل وبالتالي يطالبون بخفض ضريبي.

لا ينبغي أن يبدأ هذا الخفض في النفقات والتغيير في قانون الضرائب اليوم أو العام المقبل، فما زالت مرحلة الانتعاش الاقتصادي هشة. وهناك الكثير من القيود في سياساتنا المالية، ففترة السماح الضريبي على الأجور سوف تنتهي في بداية العام القادم، وهو الوقت الذي سيشهد تدشين برنامج تأمين البطالة. لكن من المحتمل أن يصبح الاقتصاد أقوى بحلول عام 2013 بحيث يستطيع تقبل المزيد من خفض الإنفاق ما دام أنه يتم على نحو تدريجي على مدى عشر سنوات. وهناك حاجة إلى خفض الإنفاق بتريليون دولار آخر للوصول إلى الخفض المستهدف، وهو أربعة تريليونات دولار. ومن الممكن تحقيق ذلك من خلال خفض الفائدة على دَين فيدرالي أصغر بموازاة تحقيق أشكال الخفض الأخرى. ويسلّط هذا الضوء على فوائد اتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة، وكذلك على عواقب عدم القيام بذلك. سوف تستمر الفوائد في التراكم والازدياد وتكون عبئا هائلا على الموازنة في نهاية الأمر.

حتى إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق شامل ووافٍ حاليا من أجل تحقيق الاستدامة المالية، على المشرعين عدم تخطي سقف الدَّين. ودون زيادة القدرة على الاستدانة، ربما تكفي الأموال الفيدرالية المتدفقة تسديد الديون في وقتها، لكن ماذا عن التزامات الحكومة التي لا تحصى؟ تشعر هيئات التصنيف الائتماني بالقلق من عدم قدرة وزارة الخزانة الأميركية على وضع سداد الديون على قائمة الأولويات، فقد وضعت مؤسسة «موديز»، التي أعمل لديها، الدَّين الأميركي على قائمة المراجعة، ومن المحتمل أن يتم خفض تصنيفها الائتماني. وسوف يكون تخلف الولايات المتحدة عن سداد دَينها حدثا جللا، فالتصنيف الائتماني للولايات المتحدة وهو «Aaa» يعد من ثوابت النظام المالي العالمي. وعندما يسوء الوضع في أي مكان في العالم يهرع المستثمرون من أنحاء العالم إلى شراء سندات الخزانة الأميركية لأنهم يعرفون أنهم سيستعيدون أموالهم. أدى «الاندفاع نحو الجودة» إلى انخفاض أسعار الفائدة الأميركية إلى مستوى يقترب من المستوى القياسي، وكان ذلك من العوامل الرئيسية التي ساعدت على الحفاظ على قوة الاقتصاد. لكن تم الحصول على هذه الميزة على مدى أكثر من قرنين من خلال الالتزام بمبدأ راسخ هو أن الولايات المتحدة دائما تلتزم بتسديد فواتيرها في وقتها. زلة قدم واحدة وسيتعين على الحكومة تكبّد أسعار فائدة أعلى لسنوات وربما لأجيال. وحتى لو استطاعت وزارة الخزانة وضع تسديد الديون على قائمة أولوياتها، سوف يكون ذلك على حساب التزامات أخرى. وسوف يصل العجز في أغسطس إلى 150 مليار دولار تقريبا. يمكن أن يتم منح إجازة للعاملين في القطاع الحكومي، ويمكن أن لا يحصل العمال العاطلون عن العمل على المزايا بشكل كامل، وقد يعاني حتى المستفيدون من نظام الضمان الاجتماعي وقدامى المحاربين.

ورغم أن هذا السيناريو لن يتضمن تخلف الولايات المتحدة عن سداد الدَّين، سيكون رد فعل أسواق الأوراق المالية والسندات قاسيا. ويحدث حاليا بالفعل تصدع في السوق بسبب عقود مبادلة المخاطر الائتمانية على سندات الخزانة التي يحصل المستثمرون من خلالها على ضمانات في حالة التخلف عن سداد قيمة السندات. وإذا لم يحدث تقدم في قضية سقف الدَّين خلال الأسبوع المقبل، سوف تتخذ المزيد من هيئات التصنيف الائتماني إجراءات وسوف يزداد الصدع. وإذا بدأ خفض الإنفاق الحكومي في بداية شهر أغسطس سوف يشك المستثمرون من أنحاء العالم في أمن سنداتهم، حيث سيرون حرمان المستفيدين من نظام الضمان الاجتماعي من مستحقاتهم المالية بداية لتصدع القوة المالية الأميركية. وربما نشهد إعادة إنتاج للحظة برنامج إنقاذ الأصول المتعثرة التي حدثت في سبتمبر (أيلول) 2008، عندما صوّت مجلس النواب مبدئيا على رفض تمويل خطة إنقاذ المصارف وانخفضت أسعار الأسهم. على الأقل سوف تتراجع البورصات وقيمة الدولار بشدة وترتفع أسعار الفائدة إذا لم يتم رفع سقف الدَّين قبل الموعد النهائي المحدد.

ويمكن أن يغرق الاضطراب الأسواق المالية، فضلا عن انعكاس الخفض الكبير في الإنفاق الحكومي سالبا على الانتعاش الاقتصادي الهش بين ليلة وضحاها. ولا يمكن للقطاع الخاص بأي حال من الأحوال أن يسد الفجوة التي نتجت عن هذا التراجع في المصروفات الفيدرالية. في ظل هذا الاقتصاد المتراجع ستتأثر عائدات الضرائب سلبا، وسيزداد الطلب على برامج الدعم الحكومي مما يزيد الوضع المالي للحكومة الأميركية سوءا.

وبدلا من الحاجة إلى خفض الموازنة بمقدار 4 تريليونات دولار على مدى عشر سنوات لتحقيق استدامة مالية، سيتعين على أميركا خفض الموازنة بقيمة تقترب من 5 تريليونات دولار. وسيرتفع معدل البطالة مرة أخرى ويصل إلى رقم مكون من رقمين، وسيبقى عند هذا الحد لعامين على أقل تقدير. ومن الصعب تخيل أن يخوض القادة السياسيون وصناع السياسة هذا النفق المظلم. لذا أتوقع أنهم سيتوصلون إلى طريقة لزيادة سقف الدَّين في الوقت المناسب. إذا تمكنوا من معرفة كيفية معالجة المشكلات المالية على المدى الطويل ولو بشكل جزئي خلال المفاوضات التي سيشهدها الأسبوعان المقبلان، سيكون هذا مكسبا كبيرا. لكن ليس بالضرورة أن يتم ذلك الآن، وهذا ما سوف ترتكز عليه حملة الانتخابات الرئاسية عام 2012.

* كبير خبراء الاقتصاد في «موديز أناليتيكس» ومؤلف «الصدمة المالية: الذعر العالمي وخطط إنقاذ الحكومات. كيف وصلنا إلى ذلك وما الذي يجب فعله لإصلاح الوضع؟»

* خدمة «واشنطن بوست»