تطهير الملعب أولا!

TT

سألت قريبا لنا في الصعيد عن رأيه في موضوع الاستعانة بأعضاء لجنة السياسات في الحزب الوطني من الأكاديميين والمستشارين كوزراء في حكومات مصر المتعاقبة منذ الثورة، فاستعان بالمثل الذي يقول: «مفيش قنفذ أملس أو فأر طاهر». ولأنني لم أسمع بهذا المثل من قبل طلبت منه الشرح والتوضيح، فقال: «يعني كل كبار الحزب الوطني كان لديهم شوك مثل القنفذ أيام كانوا يحكمون، أما الطهارة، فلو وجدت فأرا طاهرا، يمكنك وقتئذ أن تجد من قادة الحزب من يمكن أن تصلي وراءه». بالطبع هذه تعبيرات قريبنا وليست تعبيراتي عن الطهارة، ولا يجوز أن أحرفها أو أحذف منها أو أضيف إليها مهما كانت قاسية. سأحاول أن أعيد صياغة ما قاله الصعيدي الفصيح بلغة السياسة، أو الاقتراب مما قصد به من المثل والحوار الطويل الذي جرى بيني وبينه عن مستقبل مصر في ظل ورطة الدستور أولا أم الانتخابات أولا.

يتصور جماعة الدستور أولا أو الانتخابات أولا، ربما بحسن نية أو سذاجة، أن جحافل أصحاب المصالح المتخندقة في مواقعها منذ يوليو (تموز) 1952 سوف تترك الساحة السياسية هكذا دونما مكاسب أو دونما تخريب. هذا ليس بالأمر السهل، فهؤلاء الملايين سيدافعون ليس بالمواجهة ولكن بما يسمى في أساليب المقاومة بأسلحة الضعيف، التي تشمل التلون والتحول كما الحرباء، ليس من أجل إجهاض الثورة كما يتصور البعض، بل من أجل الحفاظ على مكاسبهم الشخصية، سواء نجحت الثورة أم لم تنجح.

في مصر اليوم بيروقراطية مرتبطة بشرعية ثورة يوليو من بقايا الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي والحزب الوطني، وهي تاريخيا ذات العائلات التي كانت مع الملكية وتحولت بعد مجيء الثورة للحفاظ على مصالحها. في يوليو قامت الجماعة بتمثيلية كمشيش التي كانت رمزا لانتصار الفلاح البسيط على كبار الملاك، ولكنها كانت حادثة واحدة تلفزيونية ولم تكن جزءا من الوصول إلى نظام جديد، وهذا ما يحدث اليوم، ربما يمنح العسكر الشعب محاكمة أو اثنتين كرمز لانتصار الثورة، ولكن سيبقى أصحاب المصالح الكبرى في أماكنهم لا يتزحزحون. لذلك وقبل حكاية الدستور أولا أو الانتخابات أولا، أقول بأنه لن ينصلح شيء في مصر قبل خلخلة النظام القديم، وتنفيس الهواء العطن من النظام، ليحل محله هواء جديد. ولكن حتى هذه اللحظة، نجد أن العسكر وشرف قرروا أن يبنوا طابقا أو دورا ثانيا فوق المبنى القديم. الطابق يبدو نظيفا، ولكن يوجد تحته بيت قديم مليء بالقنافذ والفئران التي لا يمكن أن تكون طاهرة أبدا.

قلت في مقال سابق إنه لا يمكن أن تولد الحرية من معمار القهر، ويبدو أن الجماعة يريدون بناء معبد للحرية فوق بيت قديم آيل للسقوط. من المهم بالنسبة للعسكر، وليس لدي شك في نزاهتهم أو وطنيتهم، أن يعوا بأن التاريخ سوف يحاكم المرحلة، ولا أتمنى أن يحكم على الجيش المصري بأنه أساء إدارة المرحلة الانتقالية، بدافع أنه يريد العودة إلى ثكناته أو بدافع الاستعجال وعدم القدرة على الصبر على تحمل المسؤولية. لذا أراد الجيش أن يلقي بهذه الجمرة للمدنيين حتى لا تحرقه.

قبل الحديث عن الدستور والانتخابات أيهما أولا، لا بد من تمهيد الملعب وتوضيح قواعد اللعبة. ففكرة الانتخابات أولا ثم الدستور، تعني ببساطة كما قال قريبنا من الصعيد أن نلعب مباراة كرة قدم، وننظم قوانين اللعبة حسب «طريقة لعب الفريق اللي غلب، يعني فاولات ماشي، لعب بجلابية ماشي، شورت شرعي ماشي، إلخ». قريبنا عنده حق فقوانين لعبة كرة القدم معروفة عالميا، وكذلك الديمقراطية. الديمقراطية لها قواعد مثل كرة القدم، قواعد وقوانين عالمية، فلا يستقيم للعقل أن تدعي أنك تلعب كرة قدم وتلمس الكرة بيدك، أي لا يمكن أن نفصل ديمقراطية خاصة بمصر. طبعا يمكن أن ننظم كرة قدم خاصة في مصر بشورت شرعي ومسك الكرة باليد، ولكن هذا سيجعلنا ننافس في مصر فقط، فليس هناك في العالم من سيقبلنا لدخول منافسات كرة القدم حسب قواعدنا، القواعد معروفة للجميع. إذا أردنا أن نلعب في دوري محلي ولا علاقة لنا بالعالم، فالديمقراطية حسب الجدل الدائر في مصر الآن ممكنة، ولكنها ستكون ديمقراطية محلية. لقد سمى القذافي ليبيا ديمقراطية وشعبية وجماهيرية وعظمى، ولكن لم يعترف أحد لا بديمقراطيتها ولا بعظمتها، وحتى كوريا كيم جون إيل، تلك الديكتاتورية العتيدة، لا تتورع عن وصف نفسها بالديمقراطية، وإيران الدولة الدينية ذات الدستور الطائفي لا تخجل من أن تسمي نفسها ديمقراطية أيضا. لدينا في مصر من ينظرون إلى إيران كنموذج يقتدى به ولكنهم قلة، ومع ذلك فسؤالي هو هل هذه هي النماذج التي نريدها لمصر بعد ثورة 25 يناير (كانون الثاني)؟

لن يحدث تغيير في مصر قبل تطهير النظام من أصحاب المصالح المتخندقين كل في حفرته، فهؤلاء سيدافعون عن مصالحهم حتى الرمق الأخير، ويدخلون البلد في ألاعيب الدستور أولا أم الانتخابات أولا. الأساس في القصة المصرية هي التطهير أولا، ثم رسم قواعد اللعبة بشكل عادل يسمح للجميع بالمنافسة الحرة الشريفة. أما اللعبة كما نراها الآن فهي تسمح لـ«أبو جلابية» أن يدخل الملعب في أي لحظة ويخرب المشهد كله.

لكن حتى الآن لا الملعب موجود ولا تأمين الملعب موجود، فقط لدينا بعض البلطجية الذين يريدون ليس أن يلعبوا كرة قدم، ولكن يريدون اللعب بالوطن.