اللهم سلطني عليها ولا تسلطها علي

TT

تحركت التقديرات حول أسباب الحراك العربي الكبير على مروحة كبيرة من الأسباب، واختلف المحللون فيمن بينهم حول أهمية وأولوية عناصر بعينها تفسر ما حدث ويحدث فيما سمي، على نطاق واسع، ربيع العرب. هناك بالتأكيد عوامل كثيرة خيط فيها بكثرة. ولكن لعل المسكوت عنه وربما ما أثار الجمهور العربي في العمق أكثر من غيره من العوامل، ولا يزال يثيره، هو زاوج المال والسلطة معا ليشكلا، بعد فترة، قبضة على الدولة سخرت كل إمكاناتها لخدمة أهل المال وتسخير الدولة لهم، وتجاهلت كل ما عداها من أولويات، بعد وعد الثوريين العرب بُعيد النصف الثاني من القرن العشرين، بأن إحلال الطلاق البائن بين رأس المال والحكم على رأس أولوياتهم.

نتذكر صأن من أول مبادئ الثورة المصرية التي قام بها الضباط في عام 1952 في مصر كان المبدأ الثالث، الذي قال بالنص بوجوب «القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم».. كان هذا المبدأ الثالث من المبادئ الستة المعلنة للحركة العسكرية المصرية، حتى قبل مبدأ إحلال الديمقراطية، وقبل مبدأ إحلال العدالة الاجتماعية. سيطرة رأس المال على الحكم، اللذين قامت الثورات العربية للفصل بينهما، عادت من جديد بعد أن دار الزمن دورته، فأصبحت هي المسيطرة على الحكم وأهله. لم يعد سرا ما حققه العدد القليل القريب من زين العابدين بن علي، فقد أصبح اليوم مشهودا ومعززا بالكثير من الوثائق، بنوك وشركات واحتكارات. وليس سرا أيضا اشتراك أصحاب رأس المال في السلطة المصرية، حتى غدا المقعد في مجلس الشعب له ثمن محدد ومدفوع مقدما عند أساطين الحزب الوطني، كما أنه ليس سرا ما يحيط بالحكم السوري من رجال لهم رجل في المال ورجل في السلطة، إلى درجة أن بعضهم تنازل عن بعض ممتلكاته أمام الضغط الشعبي المقبل وحفظا لماء الوجه، وليس سرا أن معمر القذافي قد استخدم مال المواطنين الليبيين من أجل صرفه على ما لا يفهمه أحد من مغامرات، حتى استحق أن يكون بطلا للإفقار والتجهيل في آن معا، وكل ذلك باسم الثورة التي سوف تحرر جزر الواق واق وما كشف عن قصور آبائه في أوروبا يغني المتابع عن البحث. وليس سرا أخيرا أن أهل اليمن يعرفون أن هناك تبديدا للثروة اليمنية القلية، واستباحة لمعظم الموارد التي ذهبت إلى أهل الحظوة من القلة. سيطرة رأس المال على الحكم وشهوة الحكام في كنز المال تعميان السلطة عن كل الحقائق.

يحدثنا عثمان بن بشر في سفره الكبير، المعنون «عنوان المجد في تاريخ نجد»، عن سعود بن محمد بن عبد العزيز، المعروف بسعود الكبير، الذي حكم في بداية القرن الـ19 وامتد حكمه إلى أطراف الجزيرة العربية المعروفة، وأن خيرا وفيرا قدم من الأحساء على ظهور قافلة من الجمال، فلما أصبح سعود مر على القافلة، وأخذ يستطلع ما بها من أرزاق، ثم أمر بما فيها ففرقت بين الناس، قائلا: اللهم سلطني عليها ولا تسلطها عليَّ. هذا المشهد وصفه الكيسي فاسيليف في كتابه عن تاريخ المملكة. لم يكن سعود الكبير إلا جزءا من تاريخ في الحكم العربي عرف كيف يفرق بين اكتناز المال وإقامة الدولة، وأن الاثنين لا يستويان، وإن استويا لفترة لا يدومان، فتتغلب شهوة المال على عدالة الحكم.

في فلسفة الحكم الحديث لدى الدول المتقدمة تقوم بالتفريق بصرامة بين الدولة ورأس المال أو الرأسماليين من مواطنيها. فلا بأس أن يعمل رأس المال، لكنه يجب أن يكون تحت رقابة الدولة التي تتأكد من أن هناك خطوطا حمراء بين التجارة والصناعة وحركة المال ككل، وبين الحكم الذي يجب أن يكون محايدا؛ لأن عينه على رعاية المصالح العامة لا المصالح الضيقة. متى ما اختلطت مصالح أهل المال مع مصالح أهل السياسة حصل ما يُعرف بالفساد في الحكم وأصبح الضحية كلا من سواد الشعب وأصحاب رأس المال الوطني. الثورة المصرية قبل أكثر من نصف قرن والثورات التي تلتها في بلدان العرب تنبهت إلى ذلك، ولكن حتى حين، وما لبث وارثو تلك الثورات أن أعادوا الكرة من جديد، بشكل أقبح، فانفتح باب الظلم على أوسع نطاق. فسد القضاء وطوعت القوانين وانزاح الضعفاء من الناس أمام هذه السيطرة الاحتكارية المتحالفة مع الحكم حتى الفاقة، تدهور التعليم وارتفعت نسب البطالة ثم انفجر الغضب.

تحرم القوانين الحديثة أن يكون للسياسي أو أقربائه المباشرين أي علاقة بالتجارة والمال ومصادرهما، خاصة المتعلق بأعمال الدولة، كما تلزم جميع من يعمل بالسياسة بأن يصرح، تحت طائلة الرقابة الشعبية، بما يملك عاما بعد عام. في قضية مشهورة قبل عامين أثيرت شبهات حول وزير خارجية بريطاني قبل أن تستبدل تذكرته من درجة رجل الأعمال إلى الدرجة الأولى في إحدى سفراته الرسمية، وكان عليه أن يعيد فرق التذكرة تلك إلى الدولة مع الاعتذار.

لم يعد فرق بين مال الدولة وما يحق للمتنفذ العربي أن يحصل عليه، ولم يعد لرجال الاقتصاد العربي في الغالب أن يحصلوا على أذونات بالعمل إلا بمشاركة مع رجل سياسي. رواية علاء الأسواني «عمارة يعقوبيان»، مثل غيرها من الروايات الشبيهة، توثق لهذا الأمر بأبشع صورة، إما أن تدفع وإما أن تفلس، وأيضا تذهب إلى السجن! حتى أصبحت تلك الظاهرة وكأنها قانون ليس في مصر وحدها.

يقول الأولون: إن الحكام يجب ألا يكون لهم جيوب، والمعنى المجازي واضح، إلا أن الجيوب تحولت إلى حسابات سرية وعلنية في الدولة العربية المعاصرة، حتى غدت هي القاعدة بعد أن أريد لها أن تكون من الشواذ، وأصبحت من المكارم أن تسرق الدولة بعد أن كانت من الرذائل.

السؤال المطروح: هل يمكن أن تنتهي علاقة الحكم بالمال بمجرد التمنيات؟ ذلك لن يحدث في غياب المؤسسات، ولا أقول الشكل الظاهري للديمقراطية وصناديق الانتخاب والأصوات الزاعقة؛ لأن من الديمقراطيين أيضا من يغريهم المال إلى درجة التفاخر به لا كتمانه واكتنازه لا التعفف عنه! أما بناء المؤسسات فهو طريق طويل للعرب أن يسيروه، وهو مليء بالعقبات والمفاجآت. لقد تسلط المال على الحكم حتى أفقد الحكام بصيرتهم فاتجه الناس إلى الساحات يصرخون من الألم، وما زالوا يفعلون وبعضهم تحت وابل الرصاص.

آخر الكلام:

الفنانة رغدة أعلنت تأييدها للنظام في سوريا، على الرغم من المُشاهَد من الصراع مع الشعب، ذلك من حقها كمواطنة، لكنها فعلتها قبل ذلك، حين أعلنت تأييدها لنظام صدام حسين، هل بعض أهل الفن عميان سياسة؟