مصر والثقب الأسود

TT

قال المتحدث الذي كان يدرس في إحدى الجامعات الأميركية عن قضايا وملفات الشرق الأوسط: «لا تسألوني عن كيف سيتجه الربيع العربي والوضع في مصر، لأننا من البداية لم نتوقعه، فقد كنا لسنوات نرى أن الوضع لا بد أن يقود إلى تغيير، لكننا لم نتنبأ بما حدث». وزاد قائلا: «لسنوات طويلة كانت مصر رغم كل الشواهد مثل الثقب الأسود المعروف في الفلك الذي يجذب كل شيء إليه ويبتلعه من دون أن تعرف إلى أين تذهب، لدرجة أننا فكرنا في تقليص عدد البرامج المتعلقة بالدراسات الخاصة بمصر بعد أن أصبح الموضوع مملا».

قد يلخص هذا الحديث حالة القلق والارتباك السائدة إزاء التطورات المتلاحقة هناك، فمن سكون وركود تأمين ومسؤولين يبقون في مناصبهم عشرات السنوات وما يشبه انسداد الشرايين، إلى انفجار وانهيار للنظام فاجأ الجميع، ثم حالة سيولة تامة وأحداث متلاحقة.. اعتصامات ومليونيات وحكومة تعمل تحت الضغط ومحاكمات وقصص فساد أشبه بالخيال، ووزراء يتغيرون بعد أسبوع في المنصب، وحوار سياسي صاخب مصحوب غالبا بالزعيق يشارك فيه الجميع، أناس عاديون ويساريون وإخوان وسلفيون وثوريون، قوى قديمة وأخرى حديثة شابة.

وعلى عكس الاعتقاد الذي رسخته فترة السكون أو الجمود السابقة بأن هناك حالة خوف من التغيير في هذا المجتمع، فإن دراسة التاريخ تعطي انطباعا معاكسا. فثورات هذا المجتمع كثيرة وهي أشبه بالبراكين التي تفاجئنا حممها، لكن تفاعلاتها تحت سطح الأرض تكون طويلة وغير مرئية. فقد شهدت مصر 3 ثورات كبيرة خلال أقل من مائة عام: 1919 و1952 ثم الآن 25 يناير، بينما فرنسا مثلا لديها ثورة واحدة تعد أم الثورات الحديثة في العالم، ذلك بخلاف عشرات الاحتجاجات والانتفاضات الضخمة التي حدثت في عهد الجمهورية في مصر، بينها احتجاجات 1968 ثم السبعينات (عام الضباب) ويناير (كانون الثاني) 1977، وفي الثمانينات. وفي معظم هذه الأحداث تكون هناك شواهد تسبقها تدل على أن الانفجار قادم، ومن يتأمل المشهد في العامين الأخيرين - حيث زاد معدل الإضرابات والاحتجاجات التي وصلت إلى قطع طرق - كان لا بد أن يتنبأ بأن الوضع سيصل في وقت ما إلى نقطة الغليان.

الثورات فعل سياسي يدل على أن المجتمع لم يصل إلى النظام السياسي الذي يؤمن تحقيق التغيير بانسيابية من خلال مؤسسات المجتمع وحسب رغبات أفراده بما لا يضطرهم إلى النزول إلى الشارع لفرض إرادتهم وتغيير النظام.

وهو ما حدث في حالة 25 يناير في مصر التي تشبه أكثر حالة 1919 من حيث الجماهيرية، وتشترك مع 1952 في أن الجيش شريك فيها، لكنها تختلف معها في أنه كان حاميها وليس صانعها.

وهي فرصة تاريخية لصياغة أسس نظام وعقد اجتماعي جديد يحقق القدرة على التغيير والتطوير بانسيابية من خلال مؤسسات تتمتع بثقة الناس وآليات تسمح بحوار سياسي صحي، وسيكون من أكبر المآسي في التاريخ الحديث أن تضيع هذه الفرصة.

وفي الحالة الحالية يمكن رصد اتجاهين داخل المجتمع المصري، الأول يخشى أن تضيع الثورة ويتشكك في كل شيء ويشكو بطء الاستجابة للطلبات ويضغط من أجل الإسراع في تنفيذ أهداف الثورة، والآخر قلق من حالة عدم الاستقرار ومظاهرها من اعتصامات وإضرابات، وهذا أمر طبيعي في مثل هذه الظروف، والطرفان محقان في هواجسهما. لكن لا بد أن تكون هناك نقطة التقاء وسطية يكون تركيز الجميع فيها على المستقبل وشكل الدولة أو الجمهورية الجديدة، وكيفية الانتقال لذلك في أسرع وقت دون تضييع الوقت في قضايا على الجانب، وفي هذا الصدد خرجت فكرة المبادئ فوق الدستورية أو المبادئ الحاكمة التي طرحت من قبل عدة قوى سياسية وتبناها المجلس العسكري في بياناته الأخيرة، وهي تمثل مشروعا لو تحقق فيمكن أن يحقق نقلة مهمة إلى الأمام تمهيدا لإعداد المسرح لانتخابات تعطي القراءة الصحيحة للقوى السياسية.