في مظاهرة المثقفين والفنانين بدمشق

TT

إبان اعتقالي الأخير في نهاية الأسبوع الثاني من انطلاق حركة الاحتجاج والتظاهر، قيل لي إنني كنت أحد المحرضين على التظاهر في إحدى ضواحي دمشق، وقد نفيت أنني فعلت ذلك، وأكدت أنني لا أعرف المنطقة أصلا، وهو أمر دفع المحقق لسؤالي عما إذا كنت مؤيدا للتظاهر، فقلت له إنني أعارض «التظاهر القاتل»، بمعنى أنه إذا كان الاشتراك في مظاهرة يمكن أن يؤدي إلى القتل، فأنا أعارض المشاركة في التظاهر.

غير أن هذه الفكرة في اختبارها السوري أثبتت أنها خارج السياق التطبيقي. فمنذ انطلاق المظاهرات في مارس (آذار) الماضي، صار الموت برصاص الأمن في المظاهرات الشعبية أحد المصائر التي تنتظر المشاركين فيها، والأخف في تلك المصائر هو الإصابات الجسدية غير القاتلة، التي ينجم بعضها عن الرصاص، أو نتيجة الضرب بأدوات مختلفة من قبل عناصر الأمن أو عناصر الشبيحة، وقد يكون الاعتقال بصورتيه المباشرة أو اللاحقة، الذي يأتي بعد المشاركة في التظاهر نتيجة صور يلتقطها أو تقارير يكتبها الوشاة وأعوان الأمن، تتعلق بالمشاركين بالمظاهرات. لقد أدت المظاهرات والاحتجاجات في الـ4 أشهر الماضية إلى إصابة آلاف المتظاهرين، بعضهم ماتوا وكثيرون جُرحوا، وبعض هؤلاء أصيبوا بعاهات دائمة، بينما الآلاف من الذين شاركوا في المظاهرات اعتقلوا، وأكثر من هؤلاء مطاردون من الأجهزة الأمنية ومعرضون للاعتقال في أي وقت.

ربما كانت تلك الأوضاع سببا في تأخير المشاركة المباشرة والخاصة لجماعات المثقفين والمبدعين في حركة التظاهر والاحتجاج، التي تواصلت في كثير من مدن سوريا وقراها، لكن هذا لم يمنع كثيرا منهم من المشاركة الشخصية في فعاليات الحراك الشعبي بما فيها المظاهرات، وقد اعتقل بعضهم في الأشهر الماضية في دمشق ومدن وقرى سورية عدة. وقد يكون ذلك بين عوامل أدت إلى تنادي المثقفين والمبدعين السوريين لتنظيم مظاهرة تخصهم بهدف التعبير عن مواقفهم من جهة، وتأييدا للحراك الشعبي في سوريا عشية دخوله شهره الخامس، وتجاوبت مع الدعوة مجموعة من المثقفين بينهم كتاب وصحافيون وفنانون منهم ممثلون ومخرجون في إطار حركة «مثقفين من أجل سوريا».

وبطبيعة الحال، فإن المظاهرة كانت في أحد جوانبها تأكيدا لحضور المثقفين والفنانين في الحراك العام، وتأكيدا لحق المبدعين، كمواطنين سوريين، في التظاهر حسبما ينص عليه الدستور السوري، وهو الحق الذي سُلب من عموم السوريين على مدار عقود، بحيث صار التظاهر «خارج القانون» وعندما تم السماح به في الآونة الأخيرة، جرى تقييده إلى درجة المنع المؤكد، إضافة إلى الأخطار المحيطة بالتظاهر.

وبغض النظر عن الحيثيات المتصلة بدخول المبدعين السوريين حيز التظاهر، فإن ذلك ترافق مع تطور عام، أساسه قيام السلطات بإعلان توجهها نحو الحوار باعتباره نهجا تتوجه إليه في سياق معالجة الوضع القائم، وهو ما ترافق مع عقد الاجتماع التشاوري لهيئة الحوار الوطني برئاسة نائب الرئيس فاروق الشرع، الذي سبق المظاهرة بأيام؛ حيث أقر الاجتماع التشاوري توصيات طالبت النظام بالتوجه نحو دولة ديمقراطية تعددية، السلطة فيها للشعب، دولة محمية بإعلام حر، وانتخابات حرة، الأمر الذي يعني تحولا في معالجة السلطات السورية من مسار الحل الأمني – العسكري إلى مسار الحل السياسي الذي يتطلب وقف العنف والاعتقال ومطاردة النشطاء، وإشاعة الحريات العامة، بما فيها حرية التظاهر، التي تمثل مظاهرة المبدعين من مثقفين وفنانين أحد تعبيراتها، خاصة أن هذه المجموعة أبعد ما تكون عن الاتهام بالعنف والتنظيمات المسلحة والسلفية وغيرها.

لقد قوبلت المظاهرة بإجراءات أمنية مشددة من ناحية إغلاق الطرق المحيطة، ونشر القوى الأمنية على محيط ربع ضلعه مئات الأمتار، إضافة إلى تحشيد رجال أمن وشبيحة في المنطقة، الأمر الذي حوَّل المنطقة إلى ثكنة، واعتقال بعض القادمين إلى المظاهرة بصورة مسبقة. وكلها لم تمنع من تجمهر القادمين للتظاهر في عدة تجمعات ما لبث أحدها أن أطلق المظاهرة بالنشيد الوطني، ثم بالهتاف لسوريا وللحرية قبل أن يتدخل الأمن والشبيحة لتفريق المتظاهرين بالقوة، واعتقال عشرات وتم الاعتداء على كثيرين ضربا بطريقة وحشية.

لقد أكدت تلك الممارسة أن النظام لا يتجه إلى تغيير توجهاته بالسير نحو التحول إلى السياسة بدلا من القوة والعنف؛ إذ أكدت الوقائع ما هو شائع في المعرفة السورية من أن هناك فارقا يصل إلى درجة التباعد بين القول والفعل، وهذا أحد ملامح الأزمة القائمة الآن في سوريا، وقد أضافت الوقائع إلى ما سبق احتجاز المعتقلين والمعتقلات لعدة أيام في الأمن الجنائي، وتم الاعتداء على معظم المعتقلين في فترة اعتقالهم، قبل أن يتم إطلاق سراحهم وإنهاء الفصل الأخير من مظاهرة المثقفين والفنانين في دمشق، التي كانت اختبارا للنظام واختبارا لدخول هذا القطاع دائرة الحراك الشعبي العام.

* معارض سوري