ممسحة عمه

TT

عودنا جنابكم أن نكتب في مثل هذا الوقت باب «حكايات للصيف» لكي لا نثقل عليكم في إجازاتكم، إذ يكفيكم من كرب الأحوال بقية الشهور. لكننا سوف نترك الأمر للطائف كاتبنا المبدع مشعل السديري، الذي لا ندري كيف يطرد عنه أخبار الأمة ويغتسل من آثار الأخبار، لكي يمتع قراءه ويبعدهم، ولو قليلا، عن شريط الدماء المتكرر على كل الشاشات.

لم أستطع أن أقاوم هذه «الحكاية» الصيفية، فقد سئل الروائي والمسرحي البلجيكي إريك إيمانويل شميت عن أسوأ عيوب الإنسان، فقال: البخل. وسئل من أبخل البخلاء الذين عرفهم، فقال: «عمي. فقد كان يمسح حذاءه على ممسحة جاره ثم يدخل إلى بيته. وقد نجحت خطته، إذ مات وبقيت ممسحته جديدة». ويقول شميت إن البخل أسوأ العيوب؛ لأنه يتضمن، حكما، عيوبا أخرى: الخداع والخيانة والتزوير وقساوة القلب. فلا وجود للآخر عند البخيل. وهكذا تتجلى فيه أسوأ المشاعر، أي اللامبالاة: «كان عمي البخيل باردا مثل الرماد. كل مناسبة عائلية، فرحة أو حزينة، كانت اعتداء ضده لأنه كان عليه أن (يصرف) من وقته، وهو أمر لا يطاق. البخل ليس ماديا فقط، بل نفسي وروحي أيضا».

هل يمكن أن يصدر اليوم كتاب مثل «بخلاء» الجاحظ، أو مسرحيات مثل التي وضعها المصريون والفرنسيون في الماضي؟ الأرجح لا. لقد غابت تلك العصور من الفقر المخيف، التي عرفها الأقدمون حين كان معظمهم بلا عمل، وبقي الآن البخل الخلقي، أو المولود، لذلك قال المثل: «المال علاج كل شيء إلا البخل».

لم يعد البخل الأسطوري ممكنا في عصر الاستهلاك، حيث تدفع الحياة بالناس إلى الصرف في كل اتجاه. لكن الطباع لا يمكن تغييرها مع العصور. لذا يقول شميت إن أحد أشخاص مسرحياته يصغي وهو على سرير الموت إلى أقاربه يتقاسمون ثروته، فيقفز حيا: «الموت هو عدو البخيل، إنه يرفض أن يشيخ، يرفض التحول والتغير، القيمة الوحيدة عنده هي المال، ولذلك يريد الاحتفاظ به؛ لأنه إذا صرف فإنما هو يهدر ما كسب. فلنعد إلى عمي البخيل، كان فرحه عظيما عندما يكون الطقس جميلا؛ ليس لأنه سوف يتمتع به، بل لأن ذلك يعني أنه يستطيع العودة ماشيا إلى منزله ويوفر أجرة الباص».

عرفت في قريتي صغيرا من كنا نصفهم بالبخلاء؛ رجال متقدمون في السن. أناس لا يعرف بقية أهل القرية ماذا أكلوا وماذا لم يأكلوا. وأحيانا كنا نلمح أحدهم يأكل خبزة جافة لا إدام فيها. كنا نتجنبهم ونتجنب أحيانا السلام عليهم. وعندما كبرنا أدركنا أنهم كانوا فقراء. جدا فقراء. ولم يكونوا يضمنون الحصول على الرغيف التالي، ولا ندري كيف أمضوا حياتهم دون أن يمدوا يد الحاجة إلى أحد. والفقر أصعب على النفوس الكبيرة، والشاعر هو الذي قال:

إذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام