في شأن الذي يجري في المحروسة!

TT

المعلقون على مقالاتي في «الشرق الأوسط» - وأظن أيضا مقالات الدكتور مأمون فندي - يصيبون المرء بالحيرة. فهم من ناحية يريدون تحليلا لما يجري في الدنيا والعالم، ومن ناحية أخرى يريدون من أهل مصر أن يقصوا عليهم ما يجري في المحروسة. ومن ناحيتي فإن التوازن مطلوب، فكما أن قارئ «الشرق الأوسط» يريد وجبة متنوعة، فإنه أيضا يريد من أهل مكة الذين هم أدرى بشعابها ألا يبعدوا كثيرا عنها، خاصة لو كانت القصة المصرية جارية على إثارتها التي صارت عليها بعد جمود طويل.

ما يجري في مصر خلال هذه المرحلة هو فصل من فصول ما بعد الثورة التي جرت في الـ25 من يناير (كانون الثاني) وأطاحت بالرئيس حسني مبارك في الـ11 من فبراير (شباط). ومن وقتها فإن ما نطلع عليه لا يزيد على فصول تحتفظ فيها القصة بتناقضاتها الرئيسية، ولكن التفاصيل تتغير، والإثارة تشتد. لعل القارئ، أو التاريخ في هذه الحالة، يشهد كيف أن تغيير الدول لا يجري بسهولة، وكل ذلك يجري بينما الأنفاس تلهث في انتظار النهاية وعما إذا كانت سوف تكون سعيدة أو أنها كما يحدث في قصص عربية كثيرة تكون النهاية مأساوية. السعادة سوف تأتي إذا ما نجح المصريون على الرغم من كل المصاعب والتناقضات في الوصول إلى بر الأمان بدولة مدنية ديمقراطية ينتقل فيها الحكم من العسكر إلى رئيس مدني منتخب، ومجلس تشريعي مدني أيضا منتخب، لكي يدير كلاهما البلاد من خلال دستور مثل ذلك الذي تعتمد عليه الدول المتقدمة. أما الهاوية التعيسة فسوف تكون إذا ما انتهت الأمور أو الثورة بحكم العسكر، أو الإخوان المسلمين ومن سار سيرهم من الحركات والتجمعات الإسلامية، أو بالتحالف بينهما معا.

ولكن الفصل الذي نتحدث عنه الآن ليس الخاتمة التي عندها تسيل الدموع فرحا أو قهرا، ولكنه الفصل الذي يجري فيه الشد والجذب بين الاحتمالات والإمكانيات المختلفة. القصة المصرية قوامها التوتر القائم بين «الدولة» و«الثورة»، فرغم ذهاب مبارك وأعوانه القريبين فإن الدولة ظلت باقية ممثلة في القوات المسلحة، والقضاء، والبيروقراطية العتيدة. أما الثورة فلا تزال موجودة ممثلة في 168 ائتلافا ثوريا غير أحزاب وجماعات ومنصات إعلامية متنوعة، وأمكنة - ميدان التحرير مع ميادين أخرى - صارت مزارات ومحطات للضغط والانتظار والتفاوض. كلاهما، الدولة والثورة، اعترفا ببعضهما البعض، الأولى اعترفت بشرعية المطالب الشعبية وحق التظاهر السلمي، والثانية اعترفت بالأولى أيضا باعتبارها الوعاء والحماية وأداة التغيير الثوري المطلوب.

الاعتراف المتبادل يجعل التوتر شرعيا، ولكن التوتر بطبيعته يجنح إلى الاختلال، فالدولة تريد العودة فورا إلى الحالة الطبيعية، وخاصة أن أحوال البلاد الأمنية والاقتصادية ليست على ما يرام، والقضاء له خطواته وأساليبه التي لا يريد لأحد التدخل فيها، أما البيروقراطية فلها جدولها الزمني الخاص، كما أنه لا يوجد في أدراجها إلا ما تركه نظام مبارك من ملفات. والثورة معضلتها أنها تريد نتائج سريعة، فما سقط الشهداء حتى يستمر أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي في الحكم في الوزارة، أو تمر الشهور ولما يسقط من حبل المشنقة مجرم ثارت عليه الثورة. الثوار فيهم من يريد الخروج من المعضلة كلها بمحاكم استثنائية وثورية استنادا إلى عبارة تناقض نفسها تسمى «الشرعية الثورية» التي تعني الحكم بالانطباع وليس بالأدلة، والشنق للتصفية والخلاص وليس لإقرار العدالة.

ما جرى في الواقع عكس هذا التوتر الذي كان موضوعه الخلاف عما إذا كانت الثورة قد فعلت شيئا أم أن الأحوال على حالها لم تتغير، اللهم إلا إلى الأسوأ. ولكن للأمر خلفية جارية من خلافات حول ما إذا كان المفروض وضع الدستور أولا أو إجراء الانتخابات التشريعية أولا، وعما إذا كان المفروض استمرار المجلس العسكري في إدارة الحكم أو تشكيل مجلس مدني فيه أعضاء عسكريون لحكم البلاد أثناء المرحلة الانتقالية. ولكن ربما كان هناك جزء من التوتر الذي لا يتحدث عنه أحد، وهو موقف الإخوان المسلمين الذين يتنقلون بين الدولة والثورة برشاقة شديدة، فهم مع «الثورة أولا» وليس «الدستور أولا»، وهم مع التظاهر لكن ليس مع الاعتصام، وهم في حضن المجلس العسكري والثورة في آن واحد.

إنها السياسة إذن، ولا بأس أبدا فيها من وجود استعراضات للقوة ظهرت في شكل بيانات للمجلس العسكري والوزارة والمظاهرات والاعتصامات، وحتى إغلاق طرق ومؤسسات عامة، وتدمير محطة غاز العريش التي جرت من قوى لا يعرفها أحد. ولكن استعراض القوى إما أن يؤدي إلى التصعيد، أو يساعد على التوصل إلى حلول وسط، ولم يكن هناك نقص في أي من الاتجاهين في هذا الفصل، وكلاهما، التصعيد والتفاوض، جعل لهذا الفصل طبيعته المثيرة والحريفة أيضا.

وكما هي العادة كانت هناك لحظة احتبست عندها الأنفاس عندما ألقى اللواء الفنجري بيانه إلى الأمة في لهجة تحتمل التهديد والوعيد رغم أن مضمون البيان كان ساعيا إلى التوافق. وكان طبيعيا أن يؤكد البعض على اللهجة، بينما ينظر العاقلون في المضمون. وكانت النتيجة حلولا وسطا، فالمتظاهرون عزفوا عن تعطيل الشأن العام، وجعلوا اعتصام الميادين مقبولا وحتى جاذبا للسياحة، جرى استنكار كاسح لكل ما يهدد الاقتصاد أو الصفو العام، مع الاحتفال الشامل بأن الثورة لا تزال مستمرة. الدولة من جانبها غيرت الوزارة للتخلص من «فلول» الحزب الوطني، كما تم إعطاؤها - أو الوعد بإعطائها - سلطات أكبر للعمل والحركة لتحقيق أهداف الثورة. والقضاء من ناحيته رغم الحرص الواجب على العدالة لم يجد مشكلة في البحث عن آليات تسرع من حركة المحاكمات لهؤلاء الذين قتلوا شهداء الثورة وأصابوا جرحاها. ولكن أهم ما حصل عليه الثوار، كان أمرين في صميم السياسة: الأول خريطة طريق واضحة للخطوات المقبلة من أول انتخابات المجالس التشريعية وحتى انتخاب رئيس الجمهورية، ووضع الدستور، والثاني وضع وثيقة حقوق مرشدة ومقيدة في الوقت نفسه لمن سوف يجري تكليفه بوضع دستور الدولة المقبل.

المساومة جرت إذن وحصل كل طرف على الحد الأدنى لمطالبه، ولكن التوتر لا يزال باقيا لأن الفصول المقبلة التي ستشهد الانتخابات ووضع الدستور لن تكون سهلة بحال. ومن حسن الطالع أن شهر رمضان المعظم اقترب، ومن بعده عيد الأضحى المبارك، وكلاهما سوف يعطي هدنة تلتقط فيها الأنفاس، وربما تجري فيها تسويات تحاول أطراف عديدة إنجازها قبل أن تحل ساعة النهاية أو الفصل الأخير لقصة الثورة والدولة في مصر التي عرف تاريخها الدولة أكثر بكثير مما عرف الثورة.