الطريق الصعب إلى الديمقراطية العربية

TT

مع دخول «الربيع العربي» شهره السادس، لم ترتسم، بعد، بوضوح كل معالمه وأبعاده. لا في تونس ولا في مصر، حيث معالم النظام القادم ما زالت غامضة. ولا في اليمن وسوريا وليبيا، حيث المجابهات العنيفة والدامية بين النظام القائم والثائرين عليه ما زالت محتدمة ومجهولة المآل. حتى إن بعض المراقبين باتوا يطرحون أكثر من علامة تعجب واستفهام حول إيجابيات وسلبيات هذا الربيع الذي لم تتفتح أزهاره، بل راحت تضرب فيه أكثر من شمس صيف حارقة..

لقد رحب العالم بانتفاضة الشعوب العربية على أنظمة حكم سلطوية قاسية وقائمة منذ عقود ومرشحة لأن تتحول إلى جمهوريات وراثية، معلنة رفضها لكبت الحريات والحرمان والقهر والفساد. ولكن غياب القيادات السياسية التاريخية، المرشحة لصياغة نظام سياسي جديد محل الأنظمة المطاح بها أو المرشحة للإطاحة، طرح ويطرح أسئلة كبيرة: هل باستطاعة الشعوب العربية التي تحررت من الأنظمة السلطوية أو الفاسدة، أن تبني أنظمة ديمقراطية حقيقية؟ وماذا إذا أسفرت هذه الثورات والانتفاضات عن قيام أنظمة سلطوية عقائدية من نوع آخر، على غرار النظام الإيراني، مثلا؟! وماذا إذا تحول الصراع على الحكم إلى فتنة وحروب أهلية؟ هل تكون عودة الحكم إلى أيدي العسكر هي الحل الوحيد لعودة السلام والاستقرار والأمن؟!

يقول الكاتب الصحافي الأميركي «توماس فريدمان» في مقال أخير له: «بعد فشل تجربة فرض الديمقراطية بقوة السلاح في العراق وأفغانستان، علينا أن ندرك أن الديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي يجب أن تنبع من الداخل، وأن تبنى بأيدي أبناء البلاد وبالأسلوب والهيكليات التي تناسب تقاليدهم وتفكيرهم ومعتقداتهم، ووفقا لجدول زمني يختارونه بأنفسهم». صح قوله. ولكن هل تترك الدول الكبرى والمجتمع الدولي ووسائل الإعلام الحديثة التي تحولت إلى سلطة دولية ووطنية خامسة.. الشعوب العربية والإسلامية حرة في اختراع ديمقراطيتها؟ وهل هذه الشعوب مؤهلة، اليوم، لبناء ديمقراطية على الطراز الغربي أو أي طراز آخر؟!

هناك من أجاب عن هذين السؤالين بقوله إن النموذج الديمقراطي الغربي - بل كل النماذج الحضارية والاقتصادية والثقافية الغربية - لا تناسب العرب والمسلمين لأنها غير متلائمة مع معتقداتنا الدينية وتراثنا وتقاليدنا ومصالح مجتمعاتنا. إنها وجهة نظر. ولكن هل يمكن لأي نظام حكم في بداية هذا القرن الحادي والعشرين، أن يتجاهل أو يرفض أو يعادي المجتمع الدولي والحضارة الغربية والدول الكبرى والرأي العام العالمي والأمم المتحدة والعولمة وما تنتجه «سيليكون فالي» من اختراعات حديثة تغير حياة البشر واقتصادهم والعلاقات بينهم، كل سنتين أو ثلاث؟؟ هل من السهل أو الممكن إسقاط العولمة، أي «منظمة التجارة العالمية» و«التعاون الدولي لإنقاذ البيئة من التلوث» و«مصادر الطاقة المتجددة» و«مؤسسات الدفاع عن حقوق الإنسان» (وكلها منظمات عالمية فاعلة ومؤثرة على الأنظمة الحاكمة).. من حساباتنا، وأن نبني دولا ومجتمعات خارج الزمن أو ضد العالم والعلم والتقدم البشري؟!

لقد شهدت كل دول العالم تقريبا، الكبرى والصغرى، في الغرب والشرق، ثورات عدة، في العصور الحديثة، قبل أن تصل إلى ما وصلت إليه من استقرار وديمقراطية وحرية ومساواة ورقي حضاري واجتماعي. وإذا كان هناك إجماع بين المفكرين والمنظرين الأجانب والعرب، على أن الانتفاضات الشعبية العربية الأخيرة، أو ما أطلق عليه وصف «الربيع العربي»، هي من أهم الثورات في تاريخ العرب وربما العالم، فإنه من الواضح، بعد مرور ستة أشهر على اندلاعها، أنها لن تعطي ثمارها هذه السنة أو في السنوات القليلة القادمة. بل سوف يشهد العالمان العربي والإسلامي انتفاضات وثورات وانقلابات، قبل أن ينبثق النظام المناسب أو الأفضل لحكم شعوبهما. ملكيا - ديمقراطيا كان، أم إسلاميا - ديمقراطيا، أم ديمقراطيا - مدنيا. فالمهم ليس التسمية والوصف، ولا الشعارات، بل ما سوف يحمله نظام الحكم معه من استقرار وحرية وازدهار وتقدم للشعب.

وهذا ما ليس ممكنا، بعد اليوم، من دون دخول العرب والمسلمين في العصر والعالم والحضارة الحديثة، والمشاركة في بناء حضارة المستقبل بالتعاون مع الغرب والشرق، وليس بالتركيز فقط على نظرية «المؤامرة المستمرة» على العرب والمسلمين، ورفع شعار تصفية الحسابات مع الاستعمار الغربي المتمادي، فوق كل الشعارات والمصالح.

نعم، من حق كل شعب أن يرفض القهر والتخلف والفساد وأن يثور على الأنظمة السلطوية الظالمة، وأن يتطلع إلى بناء نظام عادل وموفر للإنسان الحرية والكرامة والرزق الحلال. ولكن علينا أن ندرك أن إقامة هذا النظام تفرض واجبات وتضحيات وبعض الزمن. وأن الطريق إليه لا يمر بمعاداة العالم ولا بمعاكسة مجرى التاريخ، ولا بإعادة المجتمعات العربية والإسلامية، ألف سنة إلى الوراء..